إحدى أكثر سمات واشنطن إثارة للأسف – واستعصاء على التفسير بالنسبة لأي شخص من خارجها – هي التضخيم والتهويل السياسي والصحفي حينما ترتكب شخصية عامة خطأ، مهما كان بسيطاً. إذ يتصرف خبراء واشنطن كما لو كان حادث على وشك أن يطويه النسيان قريباً خليطاً من كل من الفضائح التي عرفتها أميركا مجتمعة.والآن حان دور وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن ليكون بمثابة «كيس الملاكمة» بالنسبة للعديد من المظالم المكبوتة لدى الطبقة السياسية. صحيح أنه ارتكب خطأ حين لم يُخطر البيت الأبيض والجمهور فوراً بحقيقة تلقيه العلاج من سرطان البروستاتا. غير أن أي شخص يعرف أوستن يعرف أنه شخص شديد الحرص على الخصوصية، والواقع أنه يمكن تفهم رغبته في الاحتفاظ بتفاصيل حالته الصحية لنفسه. ولكن في هذه الحالة، كان ذلك خطأ، مثلما اعترف شخصياً بذلك. فبصفته عضواً في مجلس الوزراء، اختار أوستن التضحية بالحق في الخصوصية الذي يتمتع به المرضى العاديون. غير أن خطأه الإنساني لا يبرر الضجة التي نسمعها الآن، ليس فقط من «الجمهوريين»، ولكن أيضاً من بعض المحللين المستقلين.فالدعوات المطالبة باستقالة أوستن ما فتئت تتزايد. إذ أضاف «الجمهوريون» اسم أوستن إلى القائمة الطويلة بأصحاب المناصب الرسمية – من الرئيس نزولاً – الذين يريدون عزلهم. ويحدث هذا التصعيد الخطابي بمعدل مثير للقلق. وشخصياً، كنتُ أتمنى لو أنني أستطيع أن أقول إنني مصدوم من كل هذه الصدمة المزيفة، ولكنني في الحقيقة لستُ متفاجئاً على الإطلاق. فهذا هو دأب واشنطن: «الجمهوريون» عازمون على إسقاط إدارة بايدن، وهم يكنّون عداء خاصاً لوزارة الدفاع، التي ينتقدونها، دون أي دليل، بسبب اهتمامها المفترض بقضايا الظلم الاجتماعي والتمييز. وقد منحتهم زلة أوستن فرصة للهجوم، وهم يشنونه بكل ما أوتوا من قوة.وسط كل هذه الجلبة، من السهل أن نغفل عن القضية الرئيسية: هل كان هناك انقطاع في سلطات القيادة الوطنية؟ الواقع أن وزير الدفاع موجود في التسلسل القيادي لاستخدام القوة العسكرية. وتمتد هذه السلسلة من الرئيس إلى الوزير إلى القادة الميدانيين. فهل كانت هناك فترة أثناء وجود أوستن في المستشفى، حيث لم يكن هناك أحد متاح لإصدار الأوامر في حال حدثت حالة طارئة تستلزم استخدام القوة؟ السكرتير الصحفي للبنتاجون، الميجر جنرال باتريك رايدر، أكد لي يوم الأربعاء أن الأمر لم يكن كذلك إذ قال: «لم تكن هناك في أي وقت من الأوقات ثغرة في القيادة والسيطرة في سلسلة القيادة لوزارة الدفاع»، مضيفاً: «ولم يكن هناك أي خطر على الأمن القومي». ووفقاً لرايدر، فإنه في المرتين اللتين ذهب فيهما أوستن إلى المستشفى – الأولى في 22 ديسمبر من أجل عملية جراحية لسرطان البروستاتا، ثم في 1 يناير من أجل التعامل مع المضاعفات الناجمة عن تلك العملية – نُقلت «السلطات التشغيلية» كما تنص على ذلك اللوائح إلى نائبة وزير الدفاع كاثلين هيكس. ولو كانت الولايات المتحدة أو قواتها تعرضت لهجوم في ذلك الوقت، فإنه كان سيكون بإمكان هيكس إصدار الأمر بالرد، حتى من المكان الذي تقضي فيه عطلتها في بورتوريكو. والحق أنه ينبغي لنا جميعا أن نكون ممتنين لأن أوستن هو وزير دفاع أميركا بعد الاضطرابات والفوضى التي عرفتها سنوات ترامب. ذلك أن الرئيس دونالد ترامب كان لديه خمسة وزراء دفاع (ثلاثة منهم «بالإنابة»)، وأرسل أشخاصاً سياسيين غير مؤهلين في محاولة للسيطرة بحكم الواقع على وزارة الدفاع. وفضلاً عن ذلك، فإن الجنرال مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان المشتركة آنذاك، كان قلقاً من أن يحاول ترامب القيام بانقلاب عسكري. ومما يحسب لأوستن أنه أعاد شعوراً بالهدوء إلى القوات المسلحة من خلال حضوره غير اللافت في القيادة. وقد أوضح أن المؤسسة العسكرية ستلتزم بالدستور، وسعى لاستئصال المتطرفين من المؤسسة العسكرية، الأمر الذي جر عليه نقمة «حزب 6 يناير». والحقيقة أنه لم يفعل كل شيء على النحو الصحيح، لكن أكبر خطأ في عهده – الانسحاب الأميركي الفوضوي من أفغانستان في 2021 – لم يكن خطأه. ذلك أنه حذّر الرئيس بايدن من الانسحاب، ولكن عندما أصدر بايدن الأمر بالانسحاب على كل حال، نفذه أوستن من دون تسريب عدم موافقته على هذا القرار إلى المؤسسات الإعلامية.وعلى غرار كثير من الناس، فإن أكبر نقاط ضعف «أوستن» هي الجانب الآخر لأعظم نقاط قوته. وإذا كان من الجيد ألا يكون أوستن من الساعين إلى التباهي أو ممن يروّجون لأنفسهم، فإنه قد يكون مفرطاً في التكتم وقليل التواصل. وهذا ما جعله الآن في ورطة. لكن ما يثار بشأن أزمته الصحية لا ينبغي أن يلغي كل الأشياء الجيدة التي فعلها – أو يدفع بايدن إلى رميه إلى قطيع الذئاب الجائعة المستعد دائماً لتمزيق أي صاحب منصب رسمي في واشنطن!