القاهرة – خلود النجار:
على الورق، أوروبا قادرة على أن تصبح عملاقًا أمنيًا. ولكن هل ستكون ضجة العدوان الروسي على أوكرانيا كافية لإيقاظها من سباتها الحالي؟ هذا هو السؤال المنتشر عبر صفحات الإعلام الغربي في الآونة الأخيرة، خاصة بعد تحركات الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته جو بايدن بالسماح لأوكرانيا باستخدام الصواريخ بعيدة المدى داخل العمق الروسي، وتبعته بريطانيا بقرار مشابه بالسماح باستخدام صواريخ ستورم شادو.
وبات الجميع يتوقع مدى خطورة رد روسيا التي جلبت إلى أراضيها 11 ألف جندي من كوريا الشمالية في كورسك، ويقاتل إلى صفوفها الحوثيون والإيرانيون، والصينيون، كما هدد الكرملين بتسليح كل الدول المعادية للدول التي قررت تسليح أوكرانيا ضده.ويقول موقع جيس ريبورت، في مقال تحليلي، إن أوروبا الموحدة ستتمتع بقوة أكثر من كافية لمواجهة روسيا بمفردها – ولكن حتى الآن لم تتمكن الدول الأوروبية من مواءمة استراتيجياتها.
وتزايد الفترة الحالية هوس العدوان الروسي الذي أصاب أدمغة الأوروبيين بعد تصاعد وتيرة الحرب الروسية الأوكرانية، حيث بات رد الفعل الروسي كابوس يضج مضاجعهم، ولا ينفك المسئولون الأوروبيون الحديث تارة عن احتمالات شن روسيا هجمات عسكرية وتارة سيبرانية وتارة أخرى تدبير مؤامرات لتأجيج الأوضاع الداخلية وزرع الفتن داخل كل دولة.
وتمتلك القارة الأوروبية الموارد اللازمة لصد العدوان الروسي، ولكن الرضا عن الذات بعد الحرب الباردة أدى إلى ضمور قدرات الدفاع في القارة، وبدت أمام روسيا منقسمة وضعيفة، وتفتقر إلى الإرادة للدفاع عن نفسها.ومع زوال الصدمة الأولية للهجوم الروسي الوحشي على أوكرانيا، أصبح على الأوروبيين الآن أن يتصالحوا مع ثلاث مجموعات من الإدراكات المزعجة.
الأول هو أن الحرب لن تنتهي في أي وقت قريب. والثاني هو أنه لا يزال من غير الواضح كيف قد تبدو هذه النهاية، والثالث هو أن ردود الفعل الأوروبية الأولية على العدوان الروسي بررت اعتقاد الكرملين بأن أوروبا منقسمة وضعيفة، والإدراك الأخير هو الأكثر شؤما على الإطلاق.وبعد أن نفد زخم الهجوم المضاد الأوكراني في الصيف الماضي بسرعة، اقترحت الأصوات التحذيرية أن النصر الروسي في أوكرانيا سوف يتبعه هجوم روسي على حلف شمال الأطلسي نفسه – ربما في غضون بضع سنوات.
في حين يلوح الكرملين بسيفه النووي، مع إيمان واضح بأن ترهيبه سوف يكون ناجحاً، فإن ضعف أوروبا وترددها في الماضي يثيران التساؤل حول ما إذا كانت أوروبا ستتمتع بالقوة والإرادة للدفاع عن نفسها في المستقبل.نظرياً، تتجاوز قوة الغرب، سواء العسكرية أو الاقتصادية، قوة روسيا إلى حد كبير، وبالنسبة لروسيا، فإن المواجهة العسكرية مع حلف الناتو سوف تنتهي بسرعة كبيرة ــ وبشكل سيئ للغاية، وحتى بدون الولايات المتحدة الأمريكية، فإن إمكانات أوروبا الاقتصادية تتضاءل بسهولة مقارنة بالقدرة الاقتصادية لروسيا.
ويكمن السبب وراء عدم ردع القيادة الروسية بهذه الحقائق هو أنها مقتنعة بوضوح بأن أوروبا تفتقر إلى الإرادة لمقاومة العدوان، وهذا هو جوهر معضلة الأمن الأوروبية، وكما لاحظ السيناتور الأميركي الراحل جون ماكين بعد الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم: “لا يوجد شيء يستفز الرئيس الروسي فلاديمير بوتن أكثر من الضعف”.
ولكن هل كان من الممكن أن تنجح روسيا في غزو أوكرانيا؟ لو كانت أوروبا موحدة وحازمة في بداية الغزو الروسي الكامل لأوكرانيا في تعبئة إمكاناتها النظرية، لكان من الممكن أن تنتهي الحرب بسرعة، والواقع أن روسيا لو كانت مقتنعة بأن أوروبا سوف ترد بقوة، لم تكن لتجرؤ على شن غزوها في المقام الأول.
والسؤال الأهم الآن هو: “هل بقية أوروبا مستعدة حاليا لمواجهة التهديد بمزيد من الغزوات الروسية، في عمق أراضيها؟”، حيث يزداد هذا السؤال إلحاحاً بعد فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية، وهذا من شأنه أن يترك أوروبا في مواجهة هجوم روسي من دون دعم الولايات المتحدة الأمريكية.
وبعد الاستثمار في “القوة الناعمة” للتعامل مع الكرملين، تعاني أوروبا الآن من نقص حاد في القوة الصارمة في مواجهة انتقام روسيا من التحركات الأخيرة لإدارة بايدن، وسيكون العامل الحاسم هو قدرة أوروبا على تقديم حجة موثوقة تؤكد أنها مستعدة وقادرة على الدفاع عن نفسها.
وهذا يعني أن الحكومات لابد وأن تكون مستعدة لدفع ثمن إعادة التسلح، وأن الشعوب لابد وأن تكون مستعدة لحمل السلاح، وسوف يكون إقناع الكرملين مهمة شاقة، إذ يجري حالياً الكثير من الحديث عن الكيفية التي تضع بها روسيا اقتصادها على أهبة الاستعداد للحرب، وكيف تعمل صناعاتها العسكرية بأقصى طاقتها لإنتاج المعدات، وكيف يتم حشد القوى العاملة للتعويض عن أولئك الذين يُقتَلون في معارك أوكرانيا.
وفي الوقت نفسه، تعيش القوات العسكرية في العديد من البلدان الأوروبية في حالة يرثى لها، وتقول تقارير إعلامية إن القوات المسلحة الألمانية، إذا طُلِب منها الدفاع عن البلاد، فسوف تنفد ذخيرتها في غضون يومين، وألمانيا ليست وحدها في الرأي العام المحلي الذي يعترض بشدة على الاستعداد للحرب.اتساع الهوة بين الدول الأوروبية.
وقد اكتسبت أوكرانيا، وبالتالي أوروبا، بعض الأمل في التخفيف من وطأة الأزمة بعد حصولها على حزمة صواريخ ستورم شادو البريطانية، وقبلها صواريخ أتاكمس الأمريكية بعيدة المدى التي كان سابقاً من المحظور استخدامها داخل الأراضي الروسية، حتى أفرج بايدن عنها وأعطى الضوء الأخضر لبريطانيا لتحذو حذوه، ويضغط حالياً على ألمانيا للانضمام لهم بالسماح لأوكرانيا باستخدام الصواريخ الألمانية بعيدة المدى وإرسال المزيد من الأسلحة التي طالب بها الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وتم رفضها.
وسبق وحصلت كييف على حزمة مساعدات في العشرين من إبريل عندما وافق مجلس النواب الأميركي أخيراً على حزمة مساعدات بقيمة 60.8 مليار دولار أميركي، والتي ظلت عالقة في حالة من الغموض القانوني لمدة ستة أشهر بسبب رئيس مجلس النواب الأميركي مايك جونسون، وهو جمهوري.
وفي ذلك الوقت رد الكرملين بغضب، وهو ما يشير إلى الأهمية العسكرية المحتملة لهذه الخطوة: فعندما تم سحب المساعدات، كان من الممكن أن تخفف من حدة الأزمة.تحالف موازي وعبر موقع جيس تم فرض تصور لسيناريو أكثر تفاؤلاً حول تشكيل “تحالف” موازي لتحالف روسيا والصين وكوريا الشمالية، يتمتع بالقوة والمصداقية الكافية لردع أي شكل من أشكال العدوان العسكري الروسي.
وسوف يتألف هذا التحالف من دول خط المواجهة، بدءاً من الدول الاسكندنافية ودول البلطيق في الشمال، مروراً ببولندا وجمهورية التشيك في الوسط، إلى رومانيا في الجنوب، وسوف يحظى بدعم قوي من فرنسا وبريطانيا، وكلاهما من القوى النووية.
ولن يتميز هذا التحالف فقط بالاستعداد القوي لدفع ثمن إعادة التسلح، وبوجود شعوب مستعدة لقبول احتمالات إعادة فرض التجنيد الإجباري واضطرارها إلى إرسال قوات إلى أوكرانيا، وسوف يمتلك أيضاً صناعات عسكرية عالية التقنية توفر للحكومات القدرة على تعزيز إنتاج الأسلحة المتطورة بسرعة، بما في ذلك الذخيرة.
ولكن في حين أن نتيجة هذا السيناريو ستكون ردع روسيا، فإنه سيأتي على حساب الثمن الباهظ المتمثل في خلق انقسامات عميقة داخل الغرب، بينما تقترب فرنسا من طموحها الطويل الأمد المتمثل في ضمان الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي، ولكن إذا انسحبت الولايات المتحدة من الشراكة عبر الأطلسي، فإن هذا يعني فعليا نهاية حلف الناتو.
إن هذه النتيجة من شأنها أن تؤدي إلى تحول جذري في مركز ثقل الأمن الأوروبي، ومن بين المؤشرات الدالة على أن مثل هذا التحول قد يكون جارياً بالفعل أن حلف الناتو بدأ ظنتذ منتصف العام الجاري في بناء قاعدة عسكرية في رومانيا سوف تكون أكبر حتى من القاعدة الأميركية في رامشتاين في ألمانيا إبان الحرب الباردة، كما أن الوجود المعزز لقواته على طول الحدود الشرقية يعني أيضاً تخفيض دور ألمانيا.
كما تقوم عدة دول ببناء مصانع للأسلحة في أوكرانيا، التي تتمتع هي نفسها بتقليد قوي في إنتاج الأسلحة منذ العصر السوفييتي، وإلى جانب المشتريات الضخمة من الأسلحة البولندية، يشير هذا إلى أن “مثلث لوبلين” الذي يضم بولندا وليتوانيا وأوكرانيا قد يشكل في المستقبل محور الأمن الأوروبي.
ويتلخص أحد التحذيرات في أن المجر وسلوفاكيا محصورتان بين بولندا ورومانيا ليس فقط من الناحية الجغرافية، بل وأيضاً من الناحية السياسية (فالدولتان الأولى والثانية أكثر وداً لموسكو من الدولتين الأخيرتين، على الأقل في الوقت الحالي).
وهذا أمر سوف تستغله روسيا بكل تأكيد، وهناك سبب آخر يتمثل في أن ألمانيا قد تجد نفسها في موقف غير مريح يتمثل في الضغط عليها بين بولندا وفرنسا، اللتين تشعران بالإحباط الشديد إزاء الردع الذاتي الألماني.
والنتيجة المحتملة هي ضرورة حسم تعاون ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية في الإصرار على تجميد الصراع، فسوف يكون ذلك كافياً لتحويل القوة على الورق إلى قوة صلبة حقيقية، وسوف يكون الردع الضمني كافياً لمنع الحرب بين روسيا والغرب، ولكن الأمر بعيد كل البعد عن أن يكون محسوماً، فالعملاق الأمني الأوروبي، مازال نائماً.