dhl
dhl

د. علي محمد الخوري يكتب: المرونة والإصلاحات الهيكلية في الاقتصاد العالمي

يواجه الاقتصاد العالمي مرحلة حرجة تتميز بأبطأ نصف عقد من نمو الناتج المحلي الإجمالي منذ 30 عاماً، ويفرض هذا الوضع تحديات كبيرة على صنَّاع السياسات في مختلف أنحاء العالم، إذ ستضطر السياسات الوطنية إلى الموازنة بين الاستقرار الاقتصادي الفوري، والإصلاحات البنيوية التي تخدم الأهداف طويلة الأجَل.ويسلط أحدث تقرير للبنك الدولي بشأن الآفاق الاقتصادية العالمية الضوء على الحاجة إلى المرونة والإصلاحات الهيكلية للتعامل مع المشهد الاقتصادي الراهن. ويُتوقَّع أن يدخل الاقتصاد العالمي عامه الثالث من التباطؤ المتواصل، مع تقديرات تشير إلى تراجع معدل النمو من 2.6 في المئة إلى 2.4 في المئة. وسيبدو هذا التباطؤ أشدّ وضوحاً في الاقتصادات الناشئة، إذ يُرجَّح أن يكون النمو أدنى كثيراً من المتوسط المسجل في العقد الماضي. وفي ظل هذه الظروف تُضاعِف التوترات الجيوسياسية المتصاعدة، والأوضاع المالية المتقلبة هذه التحديات، وتمثّل عوامل إضافية معقَّدة يجب التعامل معها.وينبغي لصنَّاع السياسات الوطنية التركيز على تعزيز المرونة الاقتصادية، بصفتها مخرجاً من هذه المتاهة، ويستلزم ذلك تنويع القواعد الاقتصادية، وتحصين الصناعات المحلية، وتنفيذ استثمارات كبيرة في رأس المال البشري، كما أن رعاية ريادة الأعمال، والدعم القوي للمؤسسات الصغيرة ومتوسطة الحجم أمران محوريان، لأنهما المُحركان الرئيسيان للابتكار، وإيجاد فرص عمل جديدة.ويُمثّل تنشيط الاستثمار مجالاً آخر بالغ الأهمية، فتباطؤ معدلات نمو الاستثمار يتطلَّب بذل جهود متضافرة لجذب الاستثمار الأجنبي المباشر، وخاصة في القطاعات التي تُبشّر بنمو مستدام. ويكمُن دور صنَّاع السياسات هنا في مهمة إيجاد بيئات مواتية للاستثمار، وتحقيق التوازن بين الاستقرار الاقتصادي والسياسي، مع توفير بيئة محفزة وجاذبة للاستثمارات في القطاعات المحورية.ويبرز تنشيط التجارة الدولية تحدّياً محوريّاً للاقتصادات في ظل مؤشرات تراجع نمو التجارة العالمية من المتوسطات التاريخية. وتنطوي الاستجابة الاستراتيجية لهذا الانكماش على نهج يأخذ في الحسبان إعادة هندسة العمليات والأنشطة التجارية لجعلها أسرع وأكثر فاعليَّة، وتقليص الحواجز التجارية بإعادة النظر في التعريفات الجمركية والحواجز غير الجمركية، بهدف بناء بيئة تجارية دولية أكثر انفتاحاً وتنافسية. ولا بدَّ من تبني الرقمنة في العمليات التجارية بدمج التقنيات الرقمية لتحسين الخدمات اللوجستية، ورفع كفاءة سلاسل التوريد، وتسهيل الوصول بصورة فُضلى إلى الأسواق، وخاصةً بالنسبة إلى الشركات الصغيرة ومتوسطة الحجم. وإضافةً إلى ذلك، فإن تطوير التجارة الإلكترونية أمر حتمي للتكيف مع تطورات المنصات والأدوات الرقمية، ولتمكين استفادة الشركات من الأسواق العالمية بفاعليَّة، والحفاظ على قدرتها التنافسية. ثم إن التصدي لتحديات الديون المتزايدة، وخاصةً في البلدان النامية، مسألة مُلحة، فقد أدى ارتفاع أسعار الفائدة إلى تفاقم هذه التحديات بصفتها مشكلة مُقلقة، نظراً إلى تأثيرها الكبير في الاستقرار المالي والاقتصادي لهذه البلدان، ما يجعل من الضروري العمل بالتعاون مع المؤسسات المالية الدولية من أجل إيجاد حلول مستدامة للديون.ويُعد تعزيز التنمية المستدامة مجالاً رئيسيّاً آخر، ولا يُمكِن المبالغة في تأكيد الحاجة المُلحة أيضاً إلى الاستثمار في التكنولوجيات الخضراء والطاقة المتجددة، بصفتها حلقات أساسية لتحقيق الأهداف المناخية، وضمان التنمية المستدامة. ويتطلَّب ذلك مجموعة من السياسات المُحفزة لاستثمارات الطاقة النظيفة والداعمة للتحول إلى اقتصاد منخفض الكربون.وإلى جانب ما سبق يُعد الاستقرار السياسي، والحكم الرشيد، والتماسك الاجتماعي من العوامل الحيوية التي تُمكّن الإصلاحات الاقتصادية أو تعوقها، فالمناطق التي تعاني اضطرابات سياسية أو اضطرابات مجتمعية، مثلًا، يكون تنفيذ إصلاحات اقتصادية فيها أكثر صعوبة إلى حد بعيد، ولذا نجد أن ثقة الجمهور، وقبوله السياسات الاقتصادية أمران لازمان لإنجاح هذه الإصلاحات، ذلك أن السياسات، التي قد يُنظر إليها على أنها غير عادلة، أو تؤثر بصورة غير متناسبة في شرائح معينة من السكان، يمكن أن تؤدي إلى اضطرابات اجتماعية، وعدم استقرار سياسي، وهو ما قد يؤدي إلى تقويض الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية، ودوَران الجهود في حلقات مُفرغة، ولذلك من الأهمية بمكان أن يأخذ صنَّاع السياسات في الحسبان السياقَين الاجتماعي والسياسي اللذين تُنفَّذ فيهما السياسات الاقتصادية، وأن يسعوا إلى وضع سياسات شاملة تراعي احتياجات جميع شرائح المجتمع، واهتماماتها.وأخيرًا لا يُمكِن الاستهانة بقوة التعاون العالمي في هذه الأوقات العصيبة، فالجهود التعاونية في مجالات، مثل التجارة، وتغير المناخ، والصحة العالمية، تمثل مُجتمعةً ضروريات أساسية لتحقيق استجابة مُنسقة وفعّالة للتحديات التي يفرضها عام 2024.وتتطلَّب التوقعات الاقتصادية في التقارير العالمية نهجاً شُموليّاً مُعتمداً على أسس التعاون الدولي لتحقيق التوازن بين الجهود الفورية لتحقيق الاستقرار الاقتصادي، وتوجيه بوصلة الإصلاحات الاستراتيجية نحو مزيد من المرونة والنمو المستدام والتنمية.

airfrance
مرسيدس
Leave A Reply

Your email address will not be published.