القاهرة – نهاد شعبان:
في الوقت الذي تتزايد فيه الأعباء المعيشية ويشتد الغلاء يوما بعد يوم، أصبحت الأسواق الشعبية التي تبيع الأجهزة الكهربائية المستعملة طوق نجاة للكثير من الأسر محدودة الدخل، فبينما ترتفع أسعار الأجهزة الجديدة إلى مستويات تفوق قدرة أغلب المواطنين، يجد الفقراء والبسطاء في تلك الأسواق ملاذا يوفر لهم ما يحتاجون إليه من أدوات ضرورية للحياة اليومية بأسعار تقل كثيرا عن نظيراتها في المحال التجارية الكبرى، ولم تعد هذه الأسواق ظاهرة هامشية كما كانت في الماضي، بل تحولت إلى واقع اقتصادي واجتماعي يعكس الظروف الصعبة التي يعيشها الناس في ظل التضخم وارتفاع الأسعار، فالثلاجة والغسالة والبوتاجاز والمروحة لم تعد من الكماليات، بل أصبحت من الضروريات التي لا يمكن لأي بيت الاستغناء عنها، ومع ذلك فإن شراءها جديدة أصبح عبئا يفوق إمكانيات الكثيرين، لتبرز تجارة الأجهزة المستعملة كخيار واقعي ومنقذ.وتنتشر أسواق الأجهزة المستعملة في العديد من المحافظات المصرية، مثل سوق العتبة والجيزة وطنطا والإسكندرية، حيث تتراص المحال والعربات على الجانبين، وتعرض الأجهزة القديمة بعد إعادة صيانتها أو تجميعها من قطع غيار مختلفة، ويقصد هذه الأسواق الآلاف من المواطنين أسبوعيا بحثا عن صفقة مناسبة أو جهاز يؤدي الغرض بأقل تكلفة ممكنة، ورغم أن أغلب البضائع في هذه الأسواق قديمة أو معاد إصلاحها، فإنها تظل الخيار الوحيد أمام كثير من الأسر التي لا تستطيع شراء الجديد، فالثلاجة التي يتجاوز سعرها في المحال التجارية عشرة آلاف جنيه، يمكن الحصول على شبيهة لها في السوق المستعمل بنحو ثلاثة آلاف فقط، والغسالة الأوتوماتيك التي تصل أسعارها الجديدة إلى أكثر من 12 ألف جنيه، تعرض مستعملة بنصف هذا السعر أو أقل.
هذه الفروق الكبيرة في الأسعار جعلت السوق المستعملة مقصدا أساسيا لطبقة واسعة من محدودي ومتوسطي الدخل، غير أن الوجه الآخر لهذه التجارة لا يخلو من المخاطر والمشكلات، فغياب الرقابة الرسمية على هذه الأسواق يجعل بعض التجار يستغلون حاجة الناس فيبيعون أجهزة تالفة أو غير آمنة، وفي كثير من الأحيان، لا يحصل المشتري على أي ضمان بعد الشراء، ما يعني أنه يتحمل وحده الخسارة إذا تعطل الجهاز بعد أيام قليلة، كما أن بعض هذه الأجهزة تجمع من مخلفات المصانع أو من أجهزة تم التخلص منها، وتعاد صيانتها بشكل بدائي يجعلها عرضة للتلف أو حتى التسبب في حرائق وصدمات كهربائية.وفي الوقت نفسه، يضم السوق فئة من الورش والفنيين المهرة الذين يعيدون الحياة للأجهزة القديمة بكفاءة عالية، فالكثير من هؤلاء الفنيين يمتلكون خبرة طويلة في إصلاح الأجهزة المنزلية، ويحرصون على اختبارها قبل البيع لضمان عملها بشكل جيد، ومع ذلك، تظل الفجوة قائمة بين الحاجة إلى الشراء وضمان الجودة، ما يجعل المشتري يوازن بين السعر والمخاطرة، ومن الناحية الاقتصادية، تعد تجارة الأجهزة المستعملة جزءا من الاقتصاد غير الرسمي الذي يضم ملايين العاملين في مصر، فهي توفر فرص عمل لفنيين وبائعين وسائقي نقل وعمال صيانة، مما يجعلها مصدر رزق لآلاف الأسر، كما تساهم هذه الأسواق في إعادة تدوير الموارد بدلا من التخلص منها، وهو ما يعد جانبا إيجابيا من ناحية بيئية واقتصادية، إذ يقلل من المخلفات الإلكترونية ويحافظ على البيئة، أما من الناحية الاجتماعية، فانتشار هذه الأسواق يعكس واقع الفقر والغلاء الذي يعاني منه المواطن البسيط، لكنه في الوقت نفسه يعكس قدرة المصريين على التكيف والابتكار. فبدلا من الاستسلام لارتفاع الأسعار، ابتكر الناس بدائل تتناسب مع ظروفهم، فشراء الأجهزة المستعملة لا يعني بالضرورة الفقر، بل هو تعبير عن الوعي الاقتصادي والرغبة في إدارة الموارد بحكمة، ورغم هذه الإيجابيات، يرى بعض الخبراء أن تنظيم السوق بات ضرورة ملحة، لضمان حقوق المستهلكين وتحسين جودة المنتجات المعروضة، ويقترحون أن يتم تقنين هذا القطاع عبر تسجيل المحال والورش، ووضع ضوابط للصيانة والتداول، ومنح شهادات ضمان محددة المدة حتى يشعر المواطن بالأمان عند الشراء، كما يمكن للدولة أن تدعم إنشاء مراكز معتمدة لإعادة تأهيل الأجهزة المستعملة تحت إشراف فني متخصص.




