dhl
dhl

كيف يصنع المصريون الكوميديا من لا شيء؟

القاهرة – نهاد شعبان:

إذا كانت الضحكة علاجا للهموم، فإن المصريين أتقنوا صناعة هذا العلاج باحتراف، فمنذ القدم، اشتهر الشعب المصري بروح الدعابة والقدرة العجيبة على تحويل المآسي إلى نكات، والأزمات إلى مواقف ساخرة تثير الضحك بدلا من الحزن، وكأن المصريين ولدوا ولديهم غريزة فطرية تجعلهم يصنعون الكوميديا من لا شيء، في مواجهة كل ما يعترضهم من صعوبات الحياة اليومية، هذه السمة ليست وليدة العصر الحديث، بل هي جزء أصيل من الشخصية المصرية الممتدة عبر آلاف السنين، فقد عرفت مصر منذ الفراعنة بروحها المرحة، ويتضح ذلك في النقوش القديمة التي تظهر بعض الرسوم الكاريكاتورية الساخرة، وحتى في الأمثال الشعبية التي تمزج الحكمة بالضحك، هذه الروح الساخرة استمرت وتطورت مع مرور الزمن، حتى أصبحت علامة مميزة للهوية المصرية، لا سيما في مواجهة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.يقول المصريون دائما إن الضحك سلاح الفقير، وهي عبارة تلخص فلسفتهم في الحياة. فحين تضيق الأحوال، وتزداد الهموم، يلجأ الناس إلى النكتة كوسيلة للهروب المؤقت من الواقع، وكطريقة للتنفيس عن الغضب دون مواجهة مباشرة، حيث أن النكتة بالنسبة للمصريين ليست مجرد وسيلة للترفيه، بل هي أسلوب مقاومة نفسي واجتماعي، تتيح لهم التعبير عن آرائهم في القضايا الجادة بطريقة خفيفة وغير صدامية، ففي الحارات والأسواق والمقاهي ووسائل المواصلات، تنشأ الكوميديا بشكل تلقائي، يكفي أن يحدث موقف بسيط أو خطأ غير متوقع حتى يتحول إلى مشهد فكاهي يتناقله الناس بالضحك والسخرية، فالمصري لديه قدرة مذهلة على رؤية الجانب المضحك من أي مأساة، وكأن السخرية أصبحت وسيلة للبقاء والتكيف مع الظروف الصعبة.

وتعتبر النكتة المصرية واحدة من أكثر أنواع الفكاهة ثراء وانتشارا في العالم العربي، فهي قصيرة، ذكية، وسريعة الوصول إلى الهدف، وغالبا ما تحمل بين سطورها نقدا اجتماعيا أو سياسيا لاذعا، وقد برع المصريون في تحويل الأحداث الجارية إلى نكات، سواء كانت تخص الغلاء أو السياسة أو الزواج أو حتى كرة القدم، وخلال فترات الأزمات، مثل ارتفاع الأسعار أو الأوضاع السياسية المتوترة، ينتعش سوق النكتة في مصر بشكل ملحوظ. فبدلا من أن يغرق الناس في الإحباط، يبدأون بتداول النكات على مواقع التواصل الاجتماعي، فتنتشر بسرعة البرق وتصبح جزءا من الثقافة اليومية، إنها طريقة ذكية لجعل المأساة مادة للضحك، دون إنكار الواقع أو تجاهله، بل للتعامل معه بروح خفيفة تقي من الانكسار.لم يقتصر حس الكوميديا عند المصريين على الحياة اليومية، بل انعكس بقوة في الفن، فالمسرح والسينما والتلفزيون في مصر اعتمدت الكوميديا كأحد أعمدةها الرئيسية، وبرز من خلالها عمالقة الفن الذين أصبحوا رموزا في العالم العربي، فمن نجيب الريحاني وإسماعيل يس في الماضي، إلى عادل إمام، ومحمد هنيدي، وأحمد حلمي، ومحمد سعد وغيرهم في الحاضر، استطاع هؤلاء النجوم تجسيد الضحك المصري الأصيل الذي ينبع من الموقف وليس من السخرية الجارحة، وتتميز الكوميديا المصرية بأنها قريبة من الناس، تنبع من تفاصيل حياتهم اليومية، وتعكس مشكلاتهم الاجتماعية والاقتصادية بطريقة تجعلهم يضحكون على أنفسهم دون حرج، فهي لا تعتمد فقط على النص أو الأداء، بل على الفطرة والذكاء الشعبي في التقاط المواقف الساخرة، وربما لهذا السبب، تحتل الكوميديا المصرية مكانة مميزة في قلوب المشاهدين العرب الذين يجدون فيها صدقا وبساطة تفتقدها الكوميديا المصطنعة، وفي السنوات الأخيرة، انتقلت روح الكوميديا المصرية إلى الفضاء الرقمي، فمواقع التواصل الاجتماعي أصبحت منصة ضخمة لعرض الإبداع الساخر، حيث يصنع الشباب النكتة والصورة الساخرة والفيديو القصير من أبسط المواقف، ومع كل أزمة أو حدث جديد، تنتشر آلاف البوستات الكوميدية التي تعكس رد الفعل الشعبي بذكاء وسرعة تفوق أي وسيلة إعلامية تقليدية.

اعلان الاتحاد
مرسيدس
Leave A Reply

Your email address will not be published.