dhl
dhl

ريكاردو هاوسمان يكتب: الأرجنتينيون.. وفكرة الاستقرار الضروري

عندما يتوجّه الأرجنتينيون إلى صناديق الاقتراع في انتخابات التجديد النصفي في 26 أكتوبر الجاري، ستكون القضية الأساسية بسيطة: هل يريدون استقرار اقتصادهم بشكل نهائي؟ يعتمد مستقبل الأرجنتين الاقتصادي على ما إذا كان الناخبون سيتمكّنون من حشد الإرادة السياسية لدعم الائتلاف الأصلي للرئيس خافيير ميلي وبرنامجه الإصلاحي، أم سيكون هناك تراجع من خلال تمكين أحزاب المعارضة، التي تعِد بالمزيد من الإنفاق والتخلف عن سداد الديون. ولطالما كان الاستقرار الاقتصادي حلم الأرجنتين الأصعب منالاً.فعلى مدى أكثر من ثمانية عقود، تَخَبَّطَت البلاد من أزمة إلى أخرى، عالقةً في دوامة من العجز المالي، والتضخم، والصدمات. حاولت الحكومات المتعاقبة استعادةَ النظام مراراً، لكنها كانت تفشل في كل مرة، ليس لغياب الجهود، بل لأن الإصلاحات الضرورية لم تدم طويلاً بما يكفي لترسيخ الثقة. إن نقطة الضعف المزمنة في الأرجنتين هي انعدام الانضباط المالي، إذ يميل الساسة إلى الإنفاق بما يتجاوز إمكانات البلاد، وإصدار ديون لا يمكنهم سدادها بشكل موثوق، ثم طباعة النقود لتغطية الفجوة، والاعتماد -بشكل مباشر أو غير مباشر- على التضخم والتخلف عن السداد لمحو قيمة النقود والديون التي أصدروها. ويتكرر السيناريو نفسه دائماً: يؤدي العجز إلى تضخم الدين، وتطالب الأسواق بأسعار فائدة أعلى، فيتفاقم الدين أكثر حتى يتجاوز قدرة الحكومة على السداد. والنتيجة هي الذعر، والتضخم المفرط، والتخلف عن السداد.لقد شهدت الأرجنتين تجربتين كبيرتين في العصر الحديث لمحاولة الخروج من هذا الفخ، كانتا جريئتين وواعدتين، لكنهما فشلتا في النهاية. في أوائل التسعينيات، أطلق الرئيس كارلوس منعم ووزير ماليته دومينجو كافالو «خطةَ التحويل»، التي ربطت البيزو الأرجنتيني بالدولار الأميركي بنسبة 1 إلى 1، مع خفض الإنفاق، وتحرير التجارة، وتنفيذ إصلاحات مالية واسعة. كان الهدف من هذا الربط منع الحكومة من طباعة النقود لتمويل عجزها، إذ أصبح على كل بيزو أن يكون مدعوماً بدولار في احتياطيات النقد الأجنبي.ولبرهة، اختفى التضخم وعاد النمو. لكن عجز الحكومة عن تعديل سعر الصرف كان كارثياً عندما تعرضت الأرجنتين في أواخر التسعينيات لعدة صدمات، منها ارتفاع قيمة الدولار وتراجع أسعار المنتجات الزراعية، ما جعل البيزو مبالَغاً في قيمته.ومع تفاقم العجز المالي، فقدت الأسواق الثقة. وبحلول عام 2001، انهار النظام بسبب التخلف عن السداد وانخفاض قيمة العملة والفوضى السياسية. التجربة الثانية بدأت عام 2015 مع الرئيس «ماوريسيو ماكري» الذي تجنّب ربطَ البيزو بالدولار، وتركه يتقلب في سوق الصرف الأجنبي. وبدلا من فرض إجراءات تقشف صارمة، اختار تخفيضات تدريجية، على أمل أن يُترجم الدعم السياسي المستدام إلى تعزيز المصداقية. في البداية، رحبت الأسواق بالإصلاحات، لكنها مع مرور الوقت رأت أنها فاترة جداً، خاصة بعد فشل ماكري في خفض العجز المالي.وبحلول عام 2018، بدأت رؤوس الأموال تغادر البلاد. فلجأ ماكري إلى صندوق النقد الدولي للاقتراض بعدما رفضت الأسواق إقراضه. وعندما أظهرت الانتخابات التمهيدية لعام 2019 أن أسلاف ماكري المسرفين قد يعودون إلى السلطة، انهارت الثقة من جديد، فعادت الأزمة. بعد أربع سنوات، صوّت الأرجنتينيون، المنهكون من التضخم والركود، لصالح التغيير بانتخاب «خافيير ميلي»، الاقتصادي الليبرالي. وعندما تولى منصبَه في ديسمبر 2023، تعهّد بإنهاء الفوضى المالية المزمنة في البلاد. وتضمن برنامجه خفضاً كبيراً في الإنفاق إلى جانب إصلاحات هيكلية شملت التحريرَ الاقتصادي والخصخصة، مع الإبقاء على القيود المفروضة على خروج رؤوس الأموال من البلاد. حقق برنامج ميلي في بدايته تعافياً سريعاً ومفاجئاً: انخفض التضخم من ثلاثة أرقام في ديسمبر 2023 إلى نحو 30% في أغسطس الماضي. وفي أبريل، حصلت الحكومة على قرض بقيمة 20 مليار دولار من صندوق النقد الدولي، واستغلت المناسبةَ لإلغاء القيود على شراء وبيع الدولار الأميركي.ولوهلة، بدا أن الأرجنتين قد تنجح أخيراً في كسر حلقة أزماتها. فقد منح قرض صندوق النقد الدولي حكومة ميلي احتياطيات نقدية أجنبية حيوية، وكانت بمثابة تصويت بالثقة على برنامجه، مما أدى إلى ارتفاع قيمة السندات الأرجنتينية وانخفاض تكاليف الاقتراض. لكن صدمتين سياسيتين حديثتين قلبتا المشهدَ. أولاً، جاءت اتهامات بالفساد ضد مقربين من الرئيس، مما أثار الشكوكَ حول التزامه بسياسة جديدة. ثم أعقبتها هزيمة انتخابية في مقاطعة بوينس آيرس، الأكبر في البلاد. وقد أدى ذلك إلى زرع الشكوك: هل سيتمكن ميلي من الحفاظ على أجندته إذا اهتزت قبضته على السلطة؟ هل سيتعاون الكونجرس البرازيلي مع نموذجه؟ وهل سيعود خصومُه إلى السلطة ويتراجعون عن إصلاحاته؟في السنوات المقبلة، على الأرجنتين أن تسدد أكثر من 45 مليار دولار من الديون الخارجية، ضمنها أكثر من 15 مليار دولار لصندوق النقد الدولي. وللقيام بذلك، يجب أن تتمكن من الاقتراض من الأسواق العالمية بأسعار فائدة معقولة، لكن ذلك يعتمد على المصداقية، ومن دونها لن تقرضها الأسواقُ إلا بأسعار فائدة مرتفعة جداً، مما يهدد بدفع البلاد نحو الإفلاس الذي تأمل تجنبه. إنه فخ كلاسيكي يُعرف لدى الاقتصاديين باسم فخ التوازنات المتعددة: عندما يشعر المستثمرون بالتفاؤل، فإنهم على استعداد لإقراض المال بأسعارٍ زهيدة، مما يُخفّض أسعار الفائدة ويُساعد الاقتصاد على النمو، مع إبقاء خدمة الدين منخفضة، مُؤكّدين بذلك أملهم الأولي.وعلى العكس من ذلك، إذا أصبحوا متشائمين، فإنهم يُطالبون بأقساط عالية المخاطر، مما يُؤدي إلى ارتفاعٍ حادٍ في أسعار الفائدة، مما يخنق الاستثمارَ ويزيد من تكلفة الدين العام، مُبرّرين بذلك مخاوفَهم من حدوث أزمة. ومؤخراً، أعلنت الإدارة الأميركية عن اتفاق مبادلة عملات بقيمة 20 مليار دولار، أي قرض قصير الأجل، مع الأرجنتين. وقد ذكّر هذا التعهد بتصريح «ماريو دراجي»، رئيس البنك المركزي الأوروبي آنذاك، في خضم أزمة اليورو عام 2012، عندما تعهّد بفعل «كل ما يلزم» للدفاع عن اليورو. وقد غيرت كلماته، المدعومة بقوة مؤسسية حقيقية، التوقعات، فانخفضت أسعار الفائدة دون أن يُنفق يورو واحد. وكانت خطة الإنقاذ الأميركية أقرب ما تكون إلى شبكة الأمان الموثوقة التي يمكن لميلي أن يأمل فيها.ومع ذلك، فإن شبكات الإنقاذ الخارجية هذه يمكنها أن تدعم البلاد إلى حدٍّ معين فقط. ما يهم حقاً هو ما إذا كان هذا الدعم سينتقل عبر الأسواق والسياسات ليُدخل الأرجنتينَ في حلقة فضيلة قائمة على المصداقية. لقد أظهر ميلي التزامَه بالانضباط المالي والإدارة المسؤولة للسياسة النقدية. لكن في نهاية المطاف، يجب على الأرجنتينيين أن يتوصلوا إلى توافق سياسي حول فكرة أن الاستقرار ليس شعاراً حزبياً بل أساس ضروري للنمو. والسؤال الحاسم في 26 أكتوبر هو ما إذا كانوا سيرسلون لأنفسهم وللأسواق إشارةً مفادها أن الأرجنتين مستعدة لقطع صلتها بالعادات القديمة وربط مستقبلها بالتزام راسخ بالاستقرار، مهما كلّف الأمر.

اعلان الاتحاد
مرسيدس
Leave A Reply

Your email address will not be published.