dhl
dhl

روبرت رالستون يكتب: «تراس» واستعارة خطاب تاتشر

«في ظل الوضع الحالي لا يمكنني إتمام المهمة التي انتخبني حزب المحافظين للقيام بها»، ذلك ما قالته ليز تراس الخميس، أمام جمع من الصحفيين والمراسلين، معلنةً الاستقالة كرئيسة لوزراء بريطانيا بعد ستة أسابيع فقط على توليها المنصب، وفي وقت يشهد اضطراباً على صعيد الاقتصاد العالمي، وفيما تواجه بريطانيا شتاءً قاسياً هذا العام. فقد ارتفعت أسعار الطاقة ارتفاعاً هائلاً، وانخفض الجنيه الإسترليني مقارنة بالدولار، وارتفعت معدلات الرهن العقاري بشكل حاد، وتتعرض الخدمات الصحية الوطنية لضغوط. وأدت الاضطرابات العمالية إلى توقف القطارات الأرضية وإبطاء تسليم البريد الملكي. وبالنسبة للبريطانيين الأكبر سناً، فإن كل هذا يذكرهم على نحو مخيف بالمشاكل التي واجهتها المملكة المتحدة خلال «شتاء السخط» في عامي 1978 و1979.

وقد حاولت رئيسة الوزراء المستقيلة أن تضع نفسها في نموذج شخصية سياسية برزت خلال تلك الفترة، ألا وهي مارجريت تاتشر، إذ اعتبرت تراس أن بريطانيا في حالة تدهور وأنها هي الحل للخروج من هذه الحالة، وألقت باللوم في هذا التدهور على الظروف العالمية، بما في ذلك جائحة «كوفيد-19» وحرب أوكرانيا، فضلا عن المعارضين المحليين. وفي خطابها أمام مؤتمر حزب المحافظين في برمنجهام يوم الخامس من أكتوبر الجاري، اعترفت تراس بأن «الوضع الراهن ليس خياراً». وأكدت، بعد ذلك أن المحافظين هم «الحزب الوحيد الذي لديه خطة واضحة لتحريك بريطانيا.. ولديه العزم على الإنجاز».
ورغم أن السيدتين واجهتا اضطرابات داخلية متشابهة، فإن موقف تراس يختلف جوهرياً عن موقف تاتشر، لأن حزبها كان في السلطة منذ 12 عاماً، وهي لا تمثل بشكل موثوق نوعاً جديدا من السياسة كما فعلت تاتشر. كانت انتخابات عام 1979 تهيمن عليها مزاعم الانحدار البريطاني. وقد أعلنت مقدمة بيان المحافظين، التي حددت أجندة الحزب، أن هناك «شعوراً بالعجز» لأن العديد من البريطانيين كانوا يرون أن بلادهم التي «كانت أمة عظيمة ذات يوم، تخلفت عن الركب بطريقة ما» وكانوا يشعرون بالقلق من «أن الأوان قد فات لتغيير الأمور». ذهبت تاتشر بنفسها إلى هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» وصرحت: «لا يمكنني تحمل تدهور بريطانيا».
وكما يجادل المؤرخ «جاي أورتولانو»، فقد قامت تاتشر بتسليح مخاوف الجمهور من التراجع خلال الحملة وحتى سنواتها الأولى كرئيسة للوزراء، ونجحت في إلقاء اللوم على حزب العمال باعتباره السبب في مشاكل بريطانيا. 

نجحت جهود تاتشر لتسخير المخاوف من التراجع أيضاً لأنها كانت دخيلة، سواء فيما يتعلق بعلاقتها مع حزب المحافظين، وكذلك جنسها وطبقتها. فقد كانت تنتمي إلى الطبقة الوسطى في بريطانيا («ابنة بقال») وكانت امرأة في عالم يهيمن عليه الذكور في السياسة البريطانية، لكنها في عام 1975 أصبحت زعيمة حزب المحافظين من خلال الإطاحة بإدوارد هيث. كان الكثيرون في الحزب ينظرون إليها بازدراء، لأنهم رأوا أسلوبها فظاً ومتأثراً بالعبارات المجازية الجنسية والطبقية.
لقد مكّن ذلك تاتشر من شن حملة ضد المؤسسة الحاكمة عبر الطيف السياسي. ووجهت خطابها عن الانحدار إلى سياسات الوضع الراهن، وألقت باللوم على المؤسسة.. وكان لهذا الادعاء صدى لدى الجمهور البريطاني.
وطورت تاتشر أيضاً صورةً مفادها أنها كانت نوعاً جديداً من القادة، مستعداً لإجراء تغييرات كبيرة. وكانت تشدد باستمرار على أنه «مهما كان الطريق صعباً ومهما استغرقنا من الوقت للوصول إلى هدفنا، فإننا نعتزم تحقيق تغيير جوهري في المقصد. لقد وقفنا من أجل بداية جديدة، وليس تكرار نفس الشيء».
وبالنسبة لتاتشر وحركتها السياسية «اليمينية الجديدة»، فإن إقناع البريطانيين بأن الأمة كانت في حالة تدهور وتحتاج إلى وصفاتهم الجديدة، أصبح هو الرسالة الرئيسية، بل جوهر هويتهم السياسية. 
إن وضع تاتشر كوافدة جديدة على السياسة، ودعوتها لإجراء تغييرات كبيرة.. يقفان على النقيض من وضع تراس.. فحزب المحافظين يسيطر على الحكومة البريطانية منذ 12 عاماً، وأفكار تراس لا تمثل شيئاً جديداً، بل كل سياساتها تمثل استمراراً لسياسة المحافظين السابقة، من الشؤون الخارجية إلى الرعاية الصحية والاجتماعية إلى التخفيض الضريبي الكبير الذي اقترحته. لم تقدم تراس أي رؤية واضحة متميزة عن أسلافها من حزب المحافظين. ونظراً لأن حزبها كان في السلطة لفترة طويلة، وكانت جزءاً من الحكومة، فإنه لم يكن بإمكانها أن تصور سياسة حزب العمال والمحافظين على أنها متواطئة في الانحدار البريطاني.
ورغم فترة ولايتها القصيرة جداً فإن تراس لم تحقق شعبية كبيرة، حتى إنها لم تستطع إقناع غالبية المحافظين البريطانيين، مما يشير إلى أن سياساتها بدت للجميع قديمة بعد سنوات طويلة من هيمنة حزب المحافظين.
في ظل هذه الظروف، بدا خطاب تراس حول التدهور البريطاني تكراراً أجوف أو استعارة غير موفقة لخطاب تاتشر. وحتى البريطانيون الذين كانوا مقتنعين بأن أمتهم في حالة تدهور وجدوا صعوبة في رؤية تراس، بسياساتها المحافظة المعتادة، باعتبارها الشخص الذي يمكنه عكس هذا الاتجاه.

airfrance
مرسيدس
Leave A Reply

Your email address will not be published.