في واحدة من ذكرياتي الأولى كطفل، كنتُ أجلس في حضن «تيتا» (جدتي)، وكانت رائحة التين الناضج تملأ الهواء في أواخر فصل الصيف. كنا نجلس في ظل شرفتنا المصنوعة من الحجر الجيري، محاطين بأراضي العائلة الخضراء في قرية باتت تقع الآن في إسرائيل، لكنها بالنسبة لي كانت دائماً فلسطين. أيدينا تعمل معاً على تقطيع أوراق العنب التي قطفناها من الكروم في حديقتها، حيث كانت «تيتا» تستخدم تلك الأوراق لطهي طبقي المفضل؛ أي ورق العنب المحشو. كان أجدادي فلاحين، وكانوا يشتغلون في الأرض، وكانت الأرض تقوّيهم. وُلدتُ لابنهما الذي تزوّج من أميركية من نيويورك، ونشأتُ وترعرعت كأميركي في نيو إنغلند.قرأتُ كتب شتاينبك وبالدوين واستمعت إلى بوب ديلان، لكني كنتُ أعود لزيارة عائلتي في جبل الكرمل كل سنة. وعندما حملتُ الكاميرا حينما أصبحت في الثانية عشرة من عمري، بدأت في التقاط صور لما كان حولي: الحياة الفلسطينية. ومع تقدمي في السن وتطور ممارستي في التصوير، لاحظتُ تنافراً بين تصور الغرب للمجتمع الفلسطيني والصور التي كنتُ التقطها، أو بالأحرى الحياة التي كنتُ أعيشها. في وسائل الإعلام، كان الفلسطينيون يصوَّرون في كثير من الأحيان على أنهم أشخاص ملثّمون وعنيفون، أو أشخاص يمكن التخلص منهم وبلا حياة: شعب بائس بلا وجه. لكن ذلك ليس هو ما أراه حينما أكون هناك. ذلك أن ما أصوّره هو حب جماعي غير مشروط، وتجذر وشعور بالانتماء التاريخي إلى الأرض، وكرم يومي وروح جماعية قلّما أعيشُها في أميركا. ومع مرور السنوات، سمعتُ عدداً لا نهاية له من القصص التي تتناقلها الأجيال والتي تُبرز فسيفساءَ من التعددية الاجتماعية والثقافية والدينية.العديدُ من صور الفلسطينيين التي أراها اليوم تعكس صورتَنا كشعب يكابد؛ إذ أرى صوراً لآباءَ وأمهاتٍ يحملون أطفالهم المضرجين بالرماد أمام كومة من الأنقاض، أو لرجال يعتقلهم جنود إسرائيليون مدججون بالسلاح، أو لأطفال يتضورون جوعاً يمدّون أيديهم طلباً للطعام والماء. هذا النوع من التصوير الفوتوغرافي يوثّق الواقع الوحشي للعنف العشوائي الذي يتعرض له الناس في غزة. غير أنه يسهّل أيضاً على المُشاهد رؤيةَ الفلسطينيين كظلال من دون ملامح كانت دائماً على هذا النحو وليس كأشخاص لديهم حياة وتاريخ وأحلام بأكملها.بيد أنه عندما تصبح هذه هي الصور السائدة لشعب ما، تترسخ المفاهيم المسبقة في أذهان أولئك الذين يشاهدونها. وفي حالة الفلسطينيين، فإن هذا النوع من التصوير الخبيث للفلسطينيين عبّد الطريق أمام التدمير الإسرائيلي بحق غزة، والذي أشارت إليه محكمة لاهاي، أعلى محكمة في المجتمع الدولي. وفي سياق العنف والدمار، يصبح إلحاق المزيد من العنف والدمار أمراً عادياً وروتينياً. لكن هذه الصورة أخذت تتغير جزئياً بفضل وسائل التواصل الاجتماعي التي تتحايل وتلتف على التدفقات التقليدية للمعلومات وتوفّر مساحةً لأنواع أكثر دقةً من التصوير لتتشكل في المخيال الغربي. وبينما أكتبُ هذه السطور، يقوم العدد القليل من المصوّرين الفلسطينيين الأبطال المتبقين في غزة، 6 منهم على الأقل قُتلوا منذ السابع من أكتوبر، بالإضافة إلى ما لا يقل عن 70 صحفياً آخرين، بنشر نسخة مباشرة من واقعهم، لكن بثمن باهظ جداً في كثير من الأحيان هو حياتهم. الآن، وبدلاً من جمال غزة، لم يتبقَ لديهم سوى القليل لتوثيقه عدا مناظر الموت.وفي هذا السياق، قال المصور معتز عزايزة، الذي يوثّق الحربَ في غزة للملايين من متابعيه على «إنستغرام»، في مقابلة معه: «أحنُّ كثيراً إلى الأيام السابقة عندما كنتُ أوثّق شعبي وأرضي»، مضيفاً: «أفتقدُ التقاط صور الأطفال وهم يلعبون على المراجيح، والمسنين وهم يبتسمون، وتجمعات العائلات، ومناظر الطبيعة والبحر.. أفتقد التقاط صور غزّتي الجميلة». قبل السابع من أكتوبر بوقت طويل، كان المصورون الفلسطينيون يبنون لغةً بصريةً فلسطينيةً معاصرةً، موشومةً بأخلاقيات تقرير المصير. وبالتالي فإذا كانت الصور تحكي قصص الناس، فإن صورنا تحكي قصة شعبنا.البعض يحاجج بأسطورة مفادها أن فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض. غير أن تصويري الفوتوغرافي يفنّد هذه الأسطورة: ففلسطين هي وطننا. وتصوير الحياة الفلسطينية يقاوم محاولات المحو ويقف في وجهها. إن هذه الصور يمكن أن تساعد على إعادة توجيهنا نحو مستقبل عادل: فلسطين حيث يمكننا جميعاً العيش معاً في مساواة وحرية.. منزل يمكنني أن أجلس فيه ذات يوم مع حفيدتي.. أي المكان الذي أملك فيه ماضياً ومستقبلاً.
Trending
- دبي تستضيف “دبي كوميرسيتي” الشهر المقبل
- المملكة العربية السعودية تعتزم ضخ استثمارات بأكثر من 500 مليار دولار في قطاع السياحة
- الإمارات الأولى عالمياً من حيث نصيب الفرد من الطاقة الكهربائية النظيفة
- تريليون دولار تتسبب في فشل مؤتمر المناخ العالمي COP29
- ترامب يعلن تعيين “ماثيو ويتيكر” سفيراً لحلف الناتو
- منظمة الصحة العالمية تصدر ترخيصاً لاستخدام اول لقاح لعلاج جدري القردة
- زلزال بقوة 5.1 ريختر يضرب شمال اليابان
- وحدات الدفاع الجوي الأوكراني تصد هجوم روسي
- كيف استولى “أباطرة النفط” على أجندة ترامب في مجال الطاقة…خطة الجمهوريين لـ”هيمنة” امريكا على الطاقة
- بين رهاب الهزيمة والاعتراضات .. آفة الانسحابات تغزو دوري الكرة النسائية في مصر