المنامة – يوسف الحسين:
اكتشف علماء آثار بحرينيّون وبريطانيون في منطقة سماهيج بمدينة المحرّق في مملكة البحرين ما يُعتقد أنه أحد أقدم المباني المسيحية في منطقة الخليج العربي، مما يشكّل أول دليل مادي على وجود هذا المجتمع الذي طوته قرون من الزمان. واليوم، على الرغم من أن الديانة المسيحية وثقافتها لا ترتبط بشكل رئيسي بدول الخليج، إلا أن كنيسة المشرق، المعروفة أيضاً بالكنيسة النسطورية، ازدهرت في هذه المنطقة لقرون حتى القرن السابع الميلادي بالتزامن مع بداية التحول الجماعي للمجتمعات في المنطقة إلى الدين الإسلامي عام 610م. وأكد تحليل الكربون المشعّ الذي أجراه علماء الآثار العاملون في موقع سماهيج الأثري أن المبنى كان مأهولاً ما بين منتصف القرن الرابع، وحتى منتصف القرن الثامن الميلادي، ويبدو أنه تم تركه من بعد ذلك مع انتشار الإسلام بين السكّان المحليين. وتعود حكاية التنقيب في هذا الموقع إلى عام 2019م، حيث انطلق المشروع بجهد مشترك ما بين فريق هيئة البحرين للثقافة والآثار وفريق بريطاني بقيادة البروفيسور تيموثي إنسول من معهد الدراسات العربية والإسلامية في جامعة إكستر بالمملكة المتحدة، والدكتور سلمان المحاري من هيئة البحرين للثقافة والآثار، وتم الوصول إلى هذه النتائج الهامة عام 2023م. وبدأت جهود التنقيب في تلّ بمقبرة سماهيج، حيث اكتشف العلماء تحت التل بقايا مسجد، ومع متابعة الحفر، تم اكتشاف مبنى كبير يحتوي على ثماني غرف، بما في ذلك مطبخ، وغرفة طعام، وما يبدو أنه غرفة للعمل، وثلاث غرف معيشة. وُيعتقد أن بناء المسجد كان ساهم في حفظ وصمود المبنى وبقائه حتى اليوم. وتشير المكتشفات إلى أن المبنى ربما كان قصر أسقف الأبرشية (مكان سكنه الرئيسي)، حيث كانت سماهيج جزءً منها، فالمصادر التاريخية تشير إلى هذه المنطقة باسم (ميشماهيج) أو (ماشمهيج) وهو ما يبدو تحريفاً لكلمة “سماهيج”. كما تشير السجلات التاريخية إلى وجود صلة بين هذه المنطقة والسلطات الكنسية المركزية، حيث تم فصل أحد الأساقفة في عام 410م ،وتم إدانة أسقف آخر بتحدي وحدة الكنسية في منتصف القرن السابع. ويتميز هذا الاكتشاف بوجود المبنى في سماهيج في قلب بلدة حديثة مكتظة بالسكان، على عكس معظم الاكتشافات السابقة للمباني المسيحية التي كانت تقتصر على عدد قليل من الكنائس والأديرة والمساكن المنتشرة في أنحاء المنطقة، وعادة ما كانت مواقعها نائية على ضفتي الخليج العربي. ومن أبرز المكتشفات مجموعة من الرموز المسيحية المبكرة التي تدل على هوية السكان المسيحية، وتشمل ثلاثة صلبان مصنوعة من الجبس، اثنان منها كانا يزينان المبنى من الخارج، وواحد قد يكون تم الاحتفاظ به كتذكار شخصي لأحد السكّان، إضافة إلى رسومات جدارية محفورة في الجبس تتضمن رمز السمكة وجزءً مما يبدو أنه رمز “كاي رو” (وهو رمز مكون من حروف تشير إلى كلمة المسيح). وقال الدكتور سلمان المحاري إن فريق التنقيب وصل إلى المرحلة الأخيرة من العمل في موقع سماهيج الأثري، مؤكدًا أهمية الموقع بالنسبة لتاريخ البحرين، وذلك بفضل ما عُثر عليه من بقايا أثرية زوّدت الباحثين بمعلومات عن فترة مهمة من تاريخ البحرين وهي فترة الوجود المسيحي. وأوضح أن نتائج الدراسة الأولى في بداية المشروع قدمت دلائل على أن الموقع يعود للفترة من القرن السادس إلى الثامن الميلادي، إلا أن الدراسة الأخيرة باستخدام التأريخ بالكربون المشع 14 أثبتت أن هذا المبنى يعود لفترة أقدم، وهي القرن الرابع الميلادي، أي أن عمره يعود إلى حوالي 1600 عام، وبذلك يكون واحدًا من أقدم المباني المسيحية في منطقة الخليج العربي، موضحًا أنه في الفترة الأخيرة تم العثور على دليل واضح للصليب الشرقي على لوح جصي. كما كشفت أعمال التنقيب في الموقع عن العديد من التفاصيل حول المبنى وحياة القاطنين في ذلك الوقت. فقد تم تشييده بشكل جيد للغاية بجدران حجرية مغلفة بالجبس وأرضيات جبسية مع مقابس وثقوب تشير إلى أماكن تثبيت الأبواب والمقاعد داخليًا.ًكما احتوى المطبخ على مواقد مصنوعة مع قواعد وأماكن للتخزين والحفظ، وتشير المكتشفات في داخل المبنى إلى أن سكّانه تمتعوا بمستوى معيشة جيّد، فقد تناولوا أصنافاً من اللحوم والأسماك والمحار ومحاصيل متنوعة ما زال يجري تحليلها، كما أن اكتشاف حبّات من حجر العقيق شبه الكريم وعدد كبير من القطع المكسورة من الفخار ذي الأصل الهندي، يشير إلى أن قاطني المبنى عملوا في التجارة، وخصوصاً مع الهند.ًكذلك عُثر في المبنى على كؤوس زجاجية صغيرة للشرب، و12 قطعة نقدية نحاسية تشير إلى أن السكّان استخدموا عملات من الإمبراطورية الساسانية، ومن بين ما تم العثور عليه أيضًا، أدوات للغزل وإبر نحاسية، مما يوحي بإمكانية أنه قد تمت صناعة الأقمشة في المكان لأغراض العبادة. وشدد البروفيسور تيم إنسول على أهمية الاكتشافات الأثرية الأخيرة، قائلاً: “نؤكد على الأهمية التاريخية والأثرية لهذا الموقع والحاجة الماسة للحفاظ عليه وصونه”. وأضاف: “من المثير للاهتمام أن نجد جزءًا من وجه مرسوم على صدفة لؤلؤ باستخدام مادة القار، ربما كان ذلك لرجل عاش في المبنى، ويُعد هذا الاكتشاف أول دليل مادي على الكنيسة النسطورية في البحرين، مما يوفر لنا رؤية قيمة حول كيفية عيش الناس وعملهم وعبادتهم في تلك الحقبة الزمنية”.