القاهرة – نهاد شعبان:
تاريخ السينما المصرية الممتد لأكثر من مائة عام لم يقتصر على أفلام وأسماء فنية لامعة فقط، بل ترك وراءه أرشيفا من المشاهد الخالدة التي أصبحت جزءا من الذاكرة الجماعية للمصريين والعرب، مشاهد اختصرت قضايا وأزمنة كاملة في لحظات، وجسدت بصدق مشاعر إنسانية يصعب نسيانها، حتى صارت تستعاد في الأحاديث اليومية وعلى مواقع التواصل وكأنها حدثت بالأمس، فمنذ أول فيلم صامت عام 1923، وحتى أفلام الألفية الثالثة، كانت السينما المصرية مرآة المجتمع وذاكرته الحية، فيها سجلت التحولات السياسية والاجتماعية، وتبدلت ملامح البطل من الفارس الرومانسي إلى المواطن العادي الذي يواجه الواقع، وسط هذا المشهد المتغير، بقيت بعض اللقطات والمشاهد أيقونات لا يمر الزمن عليها، لأنها تجاوزت حدود الفيلم لتصبح رمزا لفكرة أو جملة تلخص حال أمة بأكملها.
من بينها مشهد الكرسي المتحرك في فيلم الكرنك، واحد من أكثر المشاهد تأثيرا في تاريخ السينما هو مشهد الفنانة سعاد حسني في فيلم الكرنك، حين تخرج من المعتقل محطمة نفسيا وجسديا، وتجلس على كرسي متحرك لتواجه العالم بعد أن فقدت براءتها، المشهد لم يكن مجرد تمثيل، بل كان توثيقا لحالة سياسية عاشتها البلاد في زمن القمع والانكسار، إبداع سعاد حسني، وإخراج علي بدرخان، جعلا اللقطة تتجاوز الفيلم لتصبح رمزا للظلم والإنسان المقهور، وأيضا جملة الباب يفوت جمل في فيلم الزوجة الثانية، وهي الجملة التي قالتها الفنانة سناء جميل لزوجها المتردد “العمدة” الذي أراد الزواج من “فاطمة” التي جسدتها سعاد حسني، لكنها أصبحت مثلا شعبيا متداولا حتى اليوم، كما أن مشهد المواجهة بين امرأتين في مجتمع محافظ مثل لحظة قوة نادرة للمرأة في السينما المصرية الستينية، ورسخ في الذاكرة الجماعية بجرأته وصدق أدائه، ولم يكن المشهد مجرد صراع نسائي، بل تعبيرا عن مقاومة القهر الاجتماعي بكل أشكاله، وجملة “أنا بابا يا زهرة” في فيلم البرئ، ففي ختام فيلم البرئ، يقف أحمد زكي ببراءته أمام الحقيقة المرة، وهو يواجه الضابط الذي خدعه طوال الفيلم، عندما يطلق النار في لحظة غضب ويدرك أنه قتل الجميع، يصرخ بألم:”أنا بابا يا زهرة”، هذا المشهد اختصر مأساة الإنسان البسيط الذي يستخدم كأداة ثم يتهم بالخيانة، فقوة الأداء، والموسيقى التصويرية، ونظرات أحمد زكي، جعلت المشهد من أكثر لحظات السينما المصرية خلودا.أيضا الضربة القاضية في فيلم الأرض، ومشهد الفنان محمود المليجي وهو يسحب على الأرض بعد محاولته الدفاع عن أرضه في فيلم الأرض ليوسف شاهين، أصبح رمزا خالدا للفلاح المصري المكافح، اللقطة الطويلة التي ينزف فيها البطل دمه على التراب لا تزال حتى اليوم تثير مشاعر الغضب والفخر، هي ليست مجرد نهاية فيلم، بل لوحة إنسانية تختصر نضال جيل بأكمله ضد الظلم الاجتماعي، أيضا جملة الفنانة نادية الجندي الشهيرة من فيلم الباطنية “شرف البنت زي عود الكبريت” لم تفقد تأثيرها رغم مرور عقود، ذلك المشهد الذي تواجه فيه ابنتها المراهقة لتحذرها من الانحراف يعكس قسوة الحياة في الأحياء الشعبية، ويكشف عن منظومة قيم متناقضة تجمع بين القوة والخوف، وتحولت الجملة إلى تعبير ثقافي يستخدمه الناس في الحياة اليومية للدلالة على الحساسية تجاه الشرف والعادات، ومن منا ينسى عادل إمام في مسرحية شاهد ما شفش حاجة أو إسماعيل ياسين في مشهد المرايا الشهير بفيلم إسماعيل ياسين في الجيش، حين يقلد حركات الجندي المقابل، وفي السينما الحديثة أيضا، تركت أفلام مثل العسل الأسود بصمات عاطفية قوية، فمشهد أحمد حلمي عندما يبكي أمام موظف الجوازات قائلا أنا مصري لخص مشاعر الغربة والانتماء في زمن العولمة، والمشهد تحول إلى رمز للهوية المصرية، واستخدم في حملات وطنية ومقاطع مؤثرة على الإنترنت.




