تستقبل الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج ذكرى ميلاد الزعيم الخالد جمال عبدالناصر في الخامس عشر من يناير، وتحتفي النُّخب والقوى العربية الناصرية في مختلف أرجاء الوطن العربي بهذه المناسبة. ولكن السؤال الذي يتكرر دائما: لماذا يتم الاحتفاء بمناسبات الرئيس جمال عبدالناصر دون غيره رغم مرور (٥٢) عاما على رحيله؟ ويشارك في بعض الاحتفالات رجال الدولة في مصر بزيارة ضريحه مثل مناسبة ٢٣ يوليو ذكرى ثورة الضباط الأحرار التي حضرها رؤساء مصر وكبار المسؤولين؟! واحتفالات الجماهير العربية عموما في كل مناسباته تدلل على أنه الزعيم العربي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس بما حققه من منجزات في سنوات حكمه منذ ثورة ٢٣ يوليو عام ١٩٥٢م وحتى رحيله في ٢٨ سبتمبر ١٩٧٠م. وفي مقالنا هذا سوف نتطرق إلى سر بقاء الرئيس جمال عبدالناصر حاضرا في قلوب الملايين وبقاء صوره مرفوعة في كل المناسبات؟!
لا شك أن ما حققه من منجزات مادية ومعنوية ونهضة صناعية زراعية تعليمية في مصر، وتكريس مبادئ ناصرية عظيمة ما زالت عناوين تنشدها الشعوب العربية كانت الحقيقة الراسخة التي خلدت هذا الزعيم، كما تصدى عبدالناصر لقوى الاستعمار في الوطن العربي، وسجل انتصارات حقيقية في تلك المواجهات منذ اتفاقية الجلاء مرورا بتأميم القناة والعدوان الثلاثي الذي انكسر بالمقاومة الشعبية وفرض الانسحاب على دول العدوان، وبناء السد العالي أكبر مشروع إنشائي في القرن العشرين، وقوانين الإصلاح الزراعي وتوسيع رقعة الأراضي الزراعية، فصدر تقرير التنمية للأمم المتحدة لعام ١٩٦٨م بأعلى معدلات النمو في مصر رغم أنها كانت خارجة من هزيمة في حرب ١٩٦٧م، لكن الإرادة لم تنكسر فصمدت مصر ومن حولها الأمة العربية وأعلنت اللاءات الثلاث بعد الحرب مباشرة في مؤتمر الخرطوم لا صلح. لا تفاوض. لا اعتراف. وما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، وقامت حرب الاستنزاف أقسى الحروب التي واجهها كيان الاحتلال الإسرائيلي والتي مهدت لانتصار أكتوبر المجيد .
العدالة الاجتماعية التي تحققت في تلك المرحلة من تاريخ مصر كانت علامة فارقة في تاريخ مصر الحديث، فاستطاع المواطن المصري أن يعيش في ظروف جيدة، وحقق لأبناء الشعب المصري مجانية التعليم التي أخرجت آلاف الأطباء والمهندسين والمعلمين والفنيين، كما ساندت مصر الدول العربية قاطبة في مختلف مجالات نهضتها، أما في مجال الصناعة فقد تم بناء ١٢٠٠ مصنع ليحقق عبدالناصر ثورة صناعية كبرى في تاريخ مصر، وبنى برج القاهرة، ومبنى هيئة الإذاعة والتلفزيون، ودعم الدراسة في الأزهر الشريف وأدخل الطب والهندسة فيها واحتضن آلاف الطلاب من مختلف دول العالم الإسلامي بالدراسة في الأزهر مشمولا بالإقامة والتغذية والنفقة، وجمع القرآن الكريم في مصحف مسموع بأصوات كبار القراء ليصل صداه إلى مختلف أرجاء العالم، وحقق قفزة كبيرة في بناء المساجد في مصر، والأهم في هذه النهضة اعتماد مصر على أبنائها في حركة البناء فالتفَّ أبناء الشعب المصري حول الرئيس جمال عبدالناصر، كما كانت خطاباته عبر إذاعة صوت العرب تدوي من مسقط شرقا إلى طنجة في أقصى المغرب العربي ليحقق جمال عبدالناصر معادلة الاندماج بين القيادة والشعب العربي، والتي أثمرت نتائج لافتة على الصعيد السياسي والقومي العربي، وساند حركات التحرر في الوطن العربي، وأسهم في إنشاء حركة عدم الانحياز في وقت مبكر ليتبنى الحياد الإيجابي، فوقف عبدالناصر كالطود الشامخ أمام قوى الاستعمار رافضا أي مساس بالسيادة الوطنية والقومية العربية، ورسَّخ مبادئ عظيمة في ذاكرة التاريخ العربي فكان ملهم الأحرار في العالم، وسعى بكل ما في وسعه لتنفيذ مبادئ ثورة يوليو التي ركزت على القضاء على الاستعمار، والقضاء على سيطرة رأس المال على الحكم، وإقامة جيش وطني قوي، وإقامة عدالة اجتماعية، كل تلك المنجزات خلدت هذا الزعيم في قلوب الجماهير العربية التواقة لمثل هذه المواقف العروبية في وقت تعاني فيه الأمة من تأزم في العلاقات العربية وفي العمل العربي المشترك، وتغلغل القوى الدولية داخل الوطن العربي وتأثيرها على السيادة العربية، وغياب القيادة العربية المحورية، وغياب المشروع العربي النهضوي الشامل. هنا يظل عبدالناصر علامة بيضاء فارقة في تاريخ العرب الحديث، فظل خالدا في قلوب الملايين رغم مرور خمسة عقود على رحيله، لذا لا غرابة أن تجد صوره مرفوعة في كل مناسبة عربية، ولا يفوتنا أيضا أن نشير إلى جنازته ـ رحمه الله ـ عام ١٩٧٠م التي كانت أكبر جنازة في التاريخ، وهذه من الكرامات الإلهية التي خصت هذا الزعيم المخلص المجاهد الزاهد الذي أوفى بعهده تجاه وطنه وأمته فاستحق هذا التكريم .
(جريدة الوطن العمانية)