حسمت الأدلة المتوالية الجدل بين الاقتصاديين والبنوك المركزية حول طبيعة زيادات الأسعار بعد الجائحة، هل تعكس تضخمًا مؤقتًا أم مستمرًا؟
فلم يعد هناك مجال للشك في أن التضخم ليس عارضًا مؤقتًا، وأن البنوك المركزية الرئيسية بما في ذلك البنك الفيدرالي الأمريكي قد تأخرت في إجراءات التصدي المفروضة، بما أثر على ثقة الأسواق بأدائها، بما في ذلك من تبعات حالية ومستقبلية، كما يرى محمود محيي الدين الخبير الاقتصادي المصري والمبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة لتمويل التنمية المستدامة والمدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي.
فالاقتصاد لا يتسامح مع مروجي «فن عمل لا شيء» خاصة في فترات الأزمات، حيث يكون «عمل كل شيء ممكن» واجباً ملزماً على صانع القرار.
تكلفة التباطؤ بمواجهة أزمة التضخم
هناك تكلفة عالية للتباطؤ في اتخاذ القرار؛ إذ سيستمر التضخم لمدد أطول مما كان واجبًا، إذا ما تم احتواؤه مبكرًا من خلال سحب إجراءات التيسير النقدي، ثم الشروع في رفع أسعار الفائدة. والأسوأ سيكون إذا ما اضطرت البنوك المركزية إلى رفع أسعار الفائدة بمعدلات أسرع وأعلى إذا لم تجد الاستجابة التي تتوقعها، وهي بذلك كقائد سيارة تأخر في تخفيف سرعة مركبته في حينه، فيضطر إلى ضغط الكوابح بعنف بما في ذلك من تداعيات، بحسب مقال محيي الدين بصحفية الشرق الأوسط.
والسؤال المتكرر عن أسعار الفائدة يتركب من شقين؛ الأول ما مدى الارتفاعات المتوقعة في أسعار الفائدة؟ والآخر إلى متى ستستمر هذه الارتفاعات؟ وتشير توقعات السوق بعد تصريحات رئيس البنك الفيدرالي جيروم باول إلى ارتفاعات متوالية على مدار هذا العام والعام المقبل تبلغ كل واحدة منها 25 نقطة أساس لترتفع بمتوسطات أسعار الفائدة من متوسطاتها الحالية، التي تتراوح بين الصفر و0.25% ليصل سعر الفائدة إلى ما يتراوح بين 1.75% و2% مع بداية عام 2024.
ويبرر هذه الزيادات ما وصل إليه الارتفاع في أسعار السلع الاستهلاكية في الولايات المتحدة بالغًا رقم 7%، وهو أعلى من معدل التضخم العالمي الذي وصل إلى 6%. ويدعم الموجة التضخمية وتوقعاتها ارتفاع الأجور في الولايات المتحدة بمقدار 5%، كما أنه بسؤال الناس عن توقعاتهم عن التضخم على مدار الاثني عشر شهراً المقبلة تأتي إجاباتهم، وفقًا لمجلة «الإكونوميست» البريطانية، لتحوم حول 6%.
الفائدة وحدها لا تكفي
هذا سيحتم الاستمرار في رفع أسعار الفائدة، كما تقدم، مع العمل على استعادة الثقة في قرارات البنك الفيدرالي، فمجرد رفع سعر الفائدة وحده لا يكفي للسيطرة على التضخم وتوقعاته، كما أن هناك حدودًا لرفع سعر الفائدة لن تتجاوزها حتى لا تؤثر سلبًا على إجراءات التعافي الاقتصادي، خاصة فيما يتعلق بالاستثمار وأثره على النمو والتشغيل.
هذا فضلًا عن مخاطر هذه الزيادات على الديون العامة والخاصة والعائلية التي بلغت مستويات عليا فيما يعرف بالموجة الرابعة للديون التي يرجى ألا تنتهي بأزمة كالثلاث السابقات عليها، وكان آخرها الأزمة المالية العالمية في عام 2008.
وفي هذه الأثناء، تسبب سوء الإدارة الاقتصادية في التعامل مع تغيرات المناخ إلى ما يسمى «التضخم الأخضر»، بالانحراف عن أسس التحول الآمن والعادل والكفء إلى طاقة نظيفة لتخفيف الانبعاثات الضارة بالبيئة والمناخ. فما شهدناه من انسحاب مرتجل من الاستثمار في مصادر الطاقة التقليدية مع هرولة منفعلة إلى مصادر الطاقة الجديدة والمتجددة أدى إلى ارتفاع حاد في أسعار الطاقة، وزيادة نسبة إسهامها في التضخم، هذا مع الأخذ في الاعتبار عزل الأثر السلبي للتوترات الجيوسياسية على أسعار الطاقة. وينبغي إيضاح أن عملية التحول من نظام للطاقة إلى نظام بديل ستكون مكلفة وأن لها أثرًا على الأسعار.
معضلة التضخم الأخضر
من الصحيح علميًا أن العالم ينبغي أن يخفف حدة الانبعاثات الضارة بمقدار 7.6% سنويًا حتى 2030 حتى يتوافق مع تعهدات اتفاق باريس، وهو أمر ليس يسيرًا إذا علمنا أن العالم، حتى مع توقف نشاطه المفاجئ في أعقاب الجائحة عام 2020، لم تنخفض فيه معدل زيادة الانبعاثات الضارة عن 6%.
كما أن مقترحات التعجيل بتسعير الكربون لكي تصل إلى 75 دولاراً كحد أدنى حتى عام 2030، لا يمكن تجاهل أثرها التضخمي، خاصة إذا ما علمنا أن أربعة أخماس من الانبعاثات الضارة لا يوجد حالياً أي تسعير لها وأن ما يتم تسعيره فعلياً لا يتجاوز 3 دولارات كمتوسط عالمي.
هذا المزيج من الإجراءات كما يراه محيي الدين التي رفعت، وسترفع، تكلفة الحصول على مزيج الوقود من المصادر التقليدية، عن مستوياتها السعرية من دونها، مع الاندفاع الذي تسبب في رفع تكلفة مكونات مصادر الطاقة البديلة كما شهدنا في العام الماضي في أسواق الليثيوم والجرافايت والكوبالت والمنجنيز وغيرها، فضلاً عن إجراءات مقترحة لتسعير الكربون في مراحل الإنتاج والتجارة والاستخدام، لا يمكن تجاهلها عند حساب معدلات التضخم والتحسب له. فلا يمكن التهوين من الأثر السعري لهذه التحولات، على النحو الذي اعتادت عليه نماذج قياسية معمول بها في بعض البنوك المركزية عند اعتبارها التغيرات في أسعار الطاقة كتطور عارض في جانب العرض يندثر بعد حين.
فعلى سبيل المثال، تجد ارتفاعات أسعار الوقود وقد أصبحت مكوناً مهماً في ارتفاع الرقم القياسي لأسعار المستهلكين في أوروبا في الربع الأخير من العام الماضي، حيث وصل لأعلى مستوياته تاريخياً منذ العمل باليورو من عشرين عاماً مضت. كما أن هناك ما يلزم فعله من جانب السياسات المالية ونظم الضمان الاجتماعي لمساندة الفئات الأفقر في المجتمع. فحتي الاقتصادات الغنية بات فقراؤها يعانون من ارتفاع أسعار الطاقة، حيث أشار 8% من مواطني الاتحاد الأوروبي، نحو 35 مليوناً، من عدم قدرة دخولهم على ملاحقة ارتفاع تكلفة الوقود اللازم لتدفئة منازلهم وفقاً لما ذكرته إزابل شنابل في مداخلتها المشار إليها.