يبدو أن العالم ينزلق نحو مزيد من الفوضى، ذلك أن عدد النزاعات وشدّتها ازدادا بشكل ملحوظ العام الماضي مع اندلاع الحروب في الشرق الأوسط وأوروبا وأفريقيا. وفي الأثناء، بلغت حالة عدم اليقين بشأن السياسة الاقتصادية أعلى مستوياتها منذ الجائحة في وقت تلوح فيه توترات تجارية جديدة في الأفق. يضاف إلى ذلك التقدم السريع للتكنولوجيات الرائدة – وفي مقدمتها الذكاء الاصطناعي التوليدي- التي توفّر إمكانية تحقيق مكاسب اقتصادية، ولكنها سرعان ما أصبحت خط جبهة للتضليل والتنافس بين الدول. العالم يواجه سلسلة من التحديات الخطيرة. فالعام الماضي كان الأكثر حرارة على الإطلاق، والاقتصاد العالمي يتجه نحو نمو ضعيف، والنزاعات تسببت في نزوح أكثر من 122 مليون شخص حول العالم، والمخاوف المتجددة بشأن انتشار فيروسات الجهاز التنفسي تتزايد في كل من الولايات المتحدة والصين.هذه الرياح المعاكسة لا حدود لها ولا يمكن معالجتها إلا من خلال التعاون العالمي – بين الحلفاء والخصوم على حد سواء.ورغم أنه قد يبدو مستبعداً، إلا أن التعاون في مناخ اليوم ممكن. فقد خلص بحث أنجزه «المنتدى الاقتصادي العالمي»، الذي يعقد اجتماعه السنوي في دافوس السويسرية هذا الأسبوع، بالتعاون مع شركة «ماكينزي»، إلى أنه إذا كان التعاون العالمي قد تعطّل خلال السنوات الثلاث الماضية، فإنه ما زال يحرز تقدماً في عدة مجالات – وخاصة البيئة والصحة والابتكار، وإنْ لم يكن بالقدر المطلوب لتحقيق الأهداف العالمية. والخلاصة أن التعاون يمكن أن يحدث في فترات الاضطراب، وعندما يكون انعدام الثقة مرتفعاً، حيث يعمل القادة معاً في بعض المجالات ويتنافسون في مجالات أخرى.وهذا يعني أننا قد نرى الولايات المتحدة والصين تجدان فرصاً جديدة للتعاون في مجالات، مثل الوقاية من الأوبئة والتصدي لتزايد الجرائم الإلكترونية، في الوقت نفسه الذي تواصلان فيه التنافس بشراسة. وربما تتأتى فرصة للتوصل إلى حل وسط بشأن المشاكل التجارية على نحو يعود بالنفع على كليهما. كما يُظهر التاريخ أن الخصوم يمكن أن يتعاونوا. فمن المعروف أن الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي تعاونا إبان الحرب العالمية الثانية، إذ قدّمت أميركا أسلحة بمليارات الدولارات للاتحاد السوفييتي في إطار «قانون الإعارة والتأجير». كما عمل الجانبان معاً، في ذروة الحرب الباردة، حول قضايا ذات أهمية عالمية، مثل استنزاف طبقة الأوزون في الغلاف الجوي، والقيود على اختبار الأسلحة وإنتاجها، والقضاء على الجدري.غير أنه إذا كانت الدروس المستخلصة من الفترات السابقة مفيدة، فإنه سيكون من الخطأ محاولة استنساخ هياكل الماضي. فالنظام الذي نشأ بعد الحرب الباردة اتسم بالاستقرار والتعاون إلى حد كبير، ولكنه كان خاضعاً لقيادة الغرب، وكان لا يمثِّل احتياجات البلدان الأخرى على نحو متزايد، وخاصة تلك الموجودة في العالم النامي. وما توسع مجموعات، مثل «بريكس»، وهي عبارة عن إطار للتعاون بين دول ذات الأسواق الناشئة، ودعوتها إلى تغيير النظام الدولي إلا دليل على الرغبة في إعادة التفكير في كيفية بناء التعاون.والواقع أن حتى الأمم المتحدة نفسها تدعو إلى إصلاح المؤسسات متعددة الأطراف من أجل جعلها أكثر تمثيلاً واستجابة – وهو مؤشر قوي على الحاجة إلى مقاربات جديدة.اليوم، لا يمكن للتعاون أن يرتكز على مؤسسة واحدة، أو أن يكون أحادي النهج، بل يجب أن يكون متكيفاً. فعلى المستوى العملي، ينبغي على المؤسسات متعددة الأطراف الكبيرة مثل الأمم المتحدة أن تساعد على وضع جداول الأعمال، غير أنه يتعين على الشبكات الأصغر حجماً التي تضم شركات وبلدانا تتعاون من أجل النهوض بالأولويات العالمية أن تساعد بشكل متزايد على تحقيق النتائج. أحد الأمثلة على هذه المقاربة هو «تحالف المبادرين الأوائل»، وهو عبارة عن برنامج تعاون بين الولايات المتحدة و12 حكومة أخرى برعاية «المنتدى الاقتصادي العالمي»، ويضم أكثر من 100 شركة عالمية ملتزمة بالاستثمار في تقنيات الطاقة النظيفة. وتشمل قائمة أعضاء التحالف منافسين شرسين، مثل «بوينغ» و«إيرباص» و«كوكا كولا» و«بيبسيكو»، يعملون جميعهم في انسجام على أجندة مناخية مشتركة.إن العديد من التحديات التي تواجه العالم معقدة للغاية، بحيث لا يمكن لهيئة عالمية واحدة أن تتصدى لها بمفردها. ولعل الذكاء الاصطناعي هو أبرز مثال على ذلك، كونه يتطور بمعدل أسرع بكثير من التكنولوجيات السابقة، ما يجعل شركات التكنولوجيا أصواتاً أساسية عندما يتعلق الأمر بتطوير إجراءات الحماية. هذا النقل للتعاون على نطاق عالمي كبير إلى تجمعات صغيرة من المرجح أن يؤدي إلى شعور بالفوضى والاضطراب، وكذلك الحال بالنسبة لمحاولة دفع المتنافسين من القطاع الخاص إلى التعاون. غير أنه إذا كانت المجموعات تعمل من أجل تحقيق الأهداف العالمية وليس ضدها، فعلى المؤسسات والقوى العالمية أن تعمل على تشجيعها وتمكينها.وبينما تتولّى حكومات جديدة السلطة مع بداية هذا العام، ينبغي على القادة الساعين إلى خدمة مواطنيهم أن يسألوا أنفسهم ليس ما إن كان عليهم التعاون مع الآخرين أم لا، وإنما كيف. ذلك أن إيجاد طرق للعمل معاً في بيئة اليوم الأكثر اضطراباً، وإن من خلال اتباع مقاربة أقل تنظيما، هو السبيل الوحيد لتحقيق النتائج التي يتطلع إليها الناس.
