أعلنت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الحرب على الجامعات، ويبدو أنها معركة ستتحول إلى مستنقع لا مخرج منه. وقد دعا جيه دي فانس نائب الرئيس الأميركي إلى استراتيجية تشبه استراتيجية «اجتثاث البعث» تجاه المؤسسات النخبوية، في إشارة إلى التطهير الكامل للمؤسسات العسكرية والمدنية ذات الصلة بنظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين بعد الغزو الأميركي للعراق، وهي استعارة مناسبة. فقد لعبت هذه السياسة دوراً محورياً في خلق التمرد، مما قوض قدرة الولايات المتحدة على تحقيق أهدافها في البلاد.وبالمثل، ورغم تحقيقها فوزاً سهلاً في جامعة كولومبيا، تستعد جامعة هارفارد لمعركة من المرجح أن تُلهم جامعات أخرى لتحذو حذوها، وذلك إلى حد كبير نتيجةً لأفعال البيت الأبيض نفسه. وثمة مشاكل حقيقية في الجامعات، فالهيكل الأكاديمي، لاسيما في مجالي العلوم الإنسانية والاجتماعية، لا يمثل المجتمع الأميركي تمثيلاً واسع النطاق، ويميل إلى التجانس الأيديولوجي بطريقة تعيق القدرة على فهم الظواهر الاجتماعية المثيرة للجدل بدقة. ورغم أن الأكاديميين يتمتعون بحرية استثنائية على الورق، فإن الجامعات غالبًا ما تكون أماكن رقابية بسبب العوامل الثقافية.وفي الوقت نفسه، فإن العديد من المبادرات التي تُنفذ باسم التنوع والإنصاف والشمول ليست غير فعالة فحسب، بل إنها تأتي بنتائج عكسية مقارنةً بأهدافها المعلنة. لكن، وكما كان الحال في حرب العراق، فإن الكثير من مبررات الرئيس دونالد ترامب لهجومه على مؤسسات التعليم العالي مضللة، ولا يوجد أدلة على أن المعلمين يعاقبون الطلاب بانتظام لمجرد التعبير عن آراء محافظة أو دينية، على سبيل المثال. كما أن الالتحاق بالجامعة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بانخفاض احتمال تبني معتقدات معادية للسامية أو الانخراط في سلوكيات من هذا النوع. وبغض النظر عن مدى شرعية سبب الحرب، فإن نهج الإدارة غير كفء إلى درجة تمنعها من تحقيق أهدافها.وتُبرز تحركات البيت الأبيض في جامعتي هارفارد وكولومبيا بوضوح الطبيعةَ الهدامة لاستراتيجيته في إصلاح التعليم العالي. ففي جامعة كولومبيا، منحت الإدارة ترامب كلَّ ما طلبه قبل الموعد النهائي المفروض، من دون أيِّ مقاومة، وكانت تلك بمثابة فرصة كبيرة للبيت الأبيض، ففي ظلِّ ظروف تتسم بكثرة التنازلات والمخاطر العالية وعدم اليقين، تميل المؤسسات إلى اتخاذ دور «المبادر الأول» – لاسيما إذا كان هذا المبادر الأول مؤسسةً مرموقةً مثل جامعة كولومبيا. وإذا أراد البيت الأبيض تحفيز الجامعات الأخرى على الانسحاب سريعاً كما فعلت جامعة كولومبيا، فكان عليه أن يُقر بالتزامها ويشكرها على موقفها التصالحي، وأن يُفرج عن جزءٍ من الأموال (حتى لو أراد الاحتفاظ ببعضها لمواصلة المفاوضات)، إذ إن الخطوة الذكية في هذه الحالة هي مكافأة الجامعات التي تمتثل بسرعة، وجعل الجامعات التي تُقاوم عبرةً.ولكن بدلاً من ذلك، استجابت إدارة ترامب إلى تنازلات جامعة كولومبيا بتصعيد الضغط والانتقادات للجامعة ورفضها رفع التجميد ولو لدولار واحد، حتى إنها سعت إلى فرض رقابة فيدرالية كجزء من الاتفاق. ثم صعّدت مطالبها على جامعات أخرى، حيث عاقب البيت الأبيض جامعة هارفارد يوم الاثنين بتجميد 2.2 مليار دولار إضافية من التمويل الفيدرالي، وأصدر قائمة مطالب تتداخل بشكل أكثر صرامةً في استقلالية المؤسسة وأدائها الأساسي. وكانت هذه المطالب متشعبة وواسعة النطاق، لدرجة أنها تتناقض مع بعضها بعضاً بشكل مباشر.ومع ذلك، ورغم إلزام هارفارد بتطبيق عدة اختبارات حاسمة جديدة قائمة على أسس أيديولوجية للقبول والتوظيف، فإن وثيقة المطالبات نفسها تُلزم الجامعة أيضاً «بإلغاء جميع المعايير والتفضيلات والممارسات، سواء كانت إلزامية أو اختيارية، في جميع عمليات القبول والتوظيف، والتي تُعتبر بمثابة اختبارات حاسمة أيديولوجية». ويعتبر الامتثال لهذا الأمر مستحيلاً حرفياً، إذ إنه لا يمكن القضاء على جميع الممارسات الأيديولوجية مع فرض المزيد منها في الوقت ذاته. وقد أظهرت تجربة كولومبيا أن الامتثال لمثل هذه التوجيهات لا جدوى منه. ونتيجة لذلك، لم تترك الإدارة لهارفارد خيارات كثيرة سوى خيار التحدي.والآن بعد أن اختارت هارفارد طريق المقاومة، من المرجح أن تحذو مؤسسات أخرى حذوها. باختصار، تعقدت مساعي ترامب لإصلاح التعليم العالي بسبب تصرفاته هو نفسه.وتملك هارفارد من الموارد المالية ما يُمكنها من الاستغناء عن التمويل الفيدرالي أثناء خوض معركة قضائية، بل والصمود حتى نهاية فترة هذه الإدارة تماماً، إذ إن هارفارد أقدم من الولايات المتحدة نفسها، لذلك فإنها باقية، وتملك الوقت والوسائل اللازمة لاتخاذ خطوات مدروسة على المدى الطويل. أما البيت الأبيض، فلا يبدو أنه يتمتع بموارد مماثلة. وهذا واقع يصبّ في مصلحة من اختاروا التمرّد. لذلك سيكون من الحكمة لإدارة ترامب أن تتعلّم من أخطاء أميركا في العراق، بدلاً من أن تُعيد تكرارها على أراضيها.
