dhl
dhl

كارول لابون تكتب: الجامعات والحكومة.. أيهما أكثر حاجة للآخر؟

خلال الأونة الأخيرة، انتشرت مقولة أن الجامعات الأميركية «تعتمد على التمويل الفيدرالي»، وكأنها مستفيدة سلبية من سخاء الحكومة. إلا أن الواقع أقرب إلى العكس: فالحكومة الفيدرالية تعتمد على الجامعات لإجراء البحوث التي تحافظ على صحة وأمان أمتنا الأميركية وقدرتها على التنافس الاقتصادي.وإذا سبق لك اتباع إرشادات التنقل باستخدام نظام تحديد المواقع العالمي (جي بي إس)، فقد استفدت من تكنولوجيا طورتها وزارة الدفاع الأميركية «البنتاغون» بالشراكة مع علماء الجامعات. كما أن أداة تحرير الجينات الثورية «كريسبر»، التي على وشك أن يعالج الأمراض الوراثية، وُلدت من رحم أبحاث جامعية ممولة بمنح من المعاهد الوطنية للصحة. ومن الصحة العامة إلى الابتكارات التكنولوجية المتقدمة ووصولاً إلى الأمن القومي، اتخذت الجامعات الأميركية مساراً هادئاً لتصبح ركائز التقدم والازدهار الوطني.إلا المزيد من الإنجازات باتت معرضة للخطر، في وقت تستخدم فيه إدارة ترامب التمويل الفيدرالي كأداة لضبط الجامعات في مسائل لا علاقة لها بمهامها البحثية. فقد تم تقليص التمويل الجديد من المعاهد الوطنية للصحة بأكثر من ملياري دولار منذ يناير الماضي، دون احتساب مليارات الدولارات الأخرى في شكل منح مجمدة في عدة جامعات، من بينها جامعة نورثويسترن، حيث أعمل. ويقترح الرئيس دونالد ترامب خفض ميزانية تمويل المعاهد الوطنية للصحة بنسبة 40% العام المقبل، إضافة إلى تخفيض بنسبة 56% لمؤسسة العلوم الوطنية. ولتوضيح حجم التأثير، يُظهر تحليل أجراه اقتصاديون في الجامعة الأميركية أن خفض التمويل الفيدرالي للأبحاث بنسبة 25% فقط قد يؤدي إلى انخفاض في الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة مماثل لما حدث خلال فترة الركود الكبير. وإذا استمر هذا النهج، سيكون المجتمع بأسره هو الخاسر الأكبر.وكانت الشراكة بين الحكومة والجامعات حجر الأساس في الابتكار الأميركي منذ الحرب العالمية الثانية، حين ساهمت الاستثمارات الفيدرالية في العلوم الأكاديمية في تحقيق إنجازات كالرادار، والمضادات الحيوية، والحاسوب.ومنذ ذلك الحين، ساهم دعم واشنطن للأبحاث الجامعية في تعزيز التقدم الذي لا تستطيع الصناعة الخاصة تمويله أو لا ترغب في تمويله، حيث إن، المنح الفيدرالية هي التي تجعل الأفكار الجريئة، مثل فك شفرة الجينوم البشري أو علاج السرطان بالخلايا التائية «كار-تي»، والتي تتطلب صبراً واستكشافاً مدفوعاً ممكنة التنفيذ. وكانت بعض المختبرات التابعة للشركات الكبرى، مثل مختبرات بيل، تتابع هذا النوع من الأبحاث الجوهرية، إلا أنها توقفت عن ذلك، لأن المساهمين سئموا من انتظار تحوّل الاكتشافات إلى أرباح.وإذا لم تواصل الجامعات استكشاف هذه الآفاق، فلن يفعل أحد، وسيكون الوضع أسوأ. ولا يعتبر تمويل الأبحاث الفيدرالي منحة للتعليم العالي، بل إنه استثمار استراتيجي، فالحكومة لا تموّل مختبرات الجامعات لتحسين أوضاعها المالية، بل لدعم أفضل الأفكار والعقول من أجل تلبية الأولويات الوطنية.وتُمنح هذه التمويلات من خلال عمليات تنافسية للغاية للعلماء الأكثر كفاءة، سواء كانوا يدرسون علاجات السرطان أو مواد طاقة جديدة. أما الاكتشافات الناتجة، فتتخطى حدود الجامعات لتعود بالنفع على المجتمع بأسره، في شكل أدوية جديدة، وشركات ناشئة، وقدرات عسكرية متقدمة. وقد وُصفت هذه الشراكة بأنها من أكثر الشراكات إنتاجية في تاريخ أميركا، لسبب وجيه، فالعوائد الاقتصادية كانت هائلة، من بينها شركة «غوغل»، التي نشأت من مشروع بحثي لطالب دراسات عليا في جامعة ستانفورد، موّلته جزئياً مؤسسة العلوم الوطنية. كما تعود جذور صناعات بأكملها في مجالي التكنولوجيا الحيوية والأدوية إلى إنجازات جامعية مولتها المعاهد الوطنية للصحة.وفوائد هذه الشراكة للأمن القومي بالغة الأهمية، فقد اعتمدت وزارة الدفاع على باحثين جامعيين لتطوير ابتكارات مثل المواد المتقدمة، ونظارات الرؤية الليلية، والحوسبة الكمومية. ولا يمكن التقليل من شأن تأثير ذلك على مجال الصحة العامة، فالأبحاث الأكاديمية المدعومة من معاهد الصحة الوطنية تمهد الطريق لعلاجات لأمراض، مثل التصلب الجانبي الضموري، والزهايمر، والسرطان. وباختصار، لا يمكن أن تستغني الحكومة الفيدرالية عن الجامعات في المجالات العلمية والتكنولوجية، بل إنها تعتمد على مختبرات الجامعات إلى حد كبير في أبحاث القطاع الخاص وتطويره، إذ أن المختبرات لا تكتفي بتدريب الكفاءات البشرية، بل تقوم أيضاً بالاكتشافات العلمية الأساسية التي تُحوّلها إلى تطبيقات ومنتجات تجارية مربحة.والمفارقة أن الجامعات، رغم كل هذا العطاء الكبير الناتج عن الأبحاث الممولة فيدرالياً، لا يزداد اعتمادها على أموال الحكومة، بل تُظهر البيانات أن حصة التمويل الفيدرالي على الأبحاث الجامعية انخفضت خلال السنوات الأخيرة. ففي عام 2012، كانت الأموال الفيدرالية تغطي نحو 61٪ من إجمالي الأبحاث في الجامعات الأميركية، أما اليوم، فهي تغطي حوالي 55% فحسب، أي أن الدعم الفيدرالي يتراجع رغم ازدياد الحاجة إلى البحث العلمي، وفي وقت تُكثّف فيه دول منافسة مثل الصين استثماراتها في العلوم.وعلى النقيض، فإن الحكومة الفيدرالية هي التي تعتمد بشكل متزايد على الأوساط الأكاديمية. وتنفذ حصة متنامية باطراد من أبحاث وتطوير الولايات المتحدة الآن في الجامعات، وأصبح قطاع البحث العلمي، الذي يُعد محرّكًا رئيسيًا لازدهارنا الاقتصادي، يعتمد بشكل كبير على مختبرات الجامعات.ويحمل هذا التحول تداعيات كبيرة على السياسات العامة، فهو يعني أن تخفيضات التمويل الفيدرالي للأبحاث تُقلّص يُبطئ علاجًا مُحتملًا لمرض باركنسون، أو خلايا شمسية من الجيل التالي، أو التكنولوجيا التي قد تمنحنا ميزة تنافسية على المنافسين. وللأسف، فإن الدعم الفيدرالي للأبحاث والتطوير ظلّ يتراجع لعقود.فخلال ستينيات القرن الماضي، أنفقت واشنطن ما يقارب 2% من الناتج المحلي الإجمالي الأميركي على البحث العلمي، أما اليوم، فهي تنفق فقط نحو ثلث تلك النسبة. والنتيجة أن كثيرًا من الأبحاث طويلة الأمد والأساسية تواجه مستقبلًا تمويلياً غير مضمون. والأسوأ من ذلك أن إدارة ترامب بدأت تُسيّس تمويل الأبحاث، حيث يهدد هذا النهج قصير النظر بتقويض شراكة أثمرت إنجازات أنقذت أرواحاً وغيّرت العالم. إن تقويض منظومة البحث الجامعي لدينا هو بمثابة التخلي عن ريادتنا في الابتكار، في وقت نحتاج فيها إلى هذه الريادة أكثر من أي وقت مضى.في النهاية يهدف دعم البحث الجامعي إلى ضمان مستقبل الأمة، لذلك يجب التفكر في كيفية تعزيز الشراكة بين الحكومة والجامعات، لا إضعافها، وهذا يعني صياغة سياسات فيدرالية أكثر ذكاءً تُجدّد التزامنا بالعلم. كما ينبغي على الكونغرس والبيت الأبيض ضمان تمويل متسق وقوي للعلوم، ومقاومة إغراء استخدام أموال البحث كسلاح سياسي. وينبغي عليهما توسيع نطاق البرامج التي تُشجع المواهب الشابة على دخول المجالات العلمية، لا إلغاؤها.كما يجب عليهما توضيح أن المنح المُقدّمة لعلماء الجامعات ليست إنفاقاً ربحياً، بل استثمار في الصالح العام، استثمار يُؤتي ثماره في الاكتشافات الطبية، وتقنيات تولد فرص العمل، والمزايا العسكرية، والنشاط الاقتصادي، وهي عوائد لا يُمكننا تفويتها. *عالِمة الأحياء التنموية والخلايا الجذعية في جامعة نورث وسترن.

airfrance
مرسيدس
Leave A Reply

Your email address will not be published.