dhl
dhl

﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾

القاهرة – أيمن علي:

في 5 من شهر ذي القعدة من سنة 10 للهجرة أعلن النبي عن رغبته في حج بيت الله الحرام، وفورا امتلأت المدينة حينما علموا أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- سوف يحج إلى مكة، وجاء عن جابر أن الناس أقبلوا من كل حدبٍ وصوب كلهم يسأل ماذا سيفعل رسول الله ؟! ولم ينتظروا أن يجتمعوا به في مكة ولكن تكلف بعضهم وأتى إلى المدينة وتحملوا مشقة الإحرام من أبعد المواقيت عن مكة كل ذلك لكي يصحبه الناس من أول هذه العبادة، ولا يفوتهم شيء من شرف صحبة رسول الله .

فخرج النبي بصحبة حوالي مئة ألف من المسلمين رجالا ونساء من المدينة قاصداً مكة ، وحينما وصل ميقات ذي الحليفة وقف ليصلي في المسجد وبعدها ركب ناقته القصواء وهو يلبي قائلا : «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك» وذلك بعد أن اغتسل صلوات الله وسلامه عليه.

وثبت في الحديث عن زيد بن ثابت- رضي الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- تجرد لإحرامه ثم اغتسل ففي الميقات من السنة أن يتجرد المحرم من ثيابه المخيطة لقوله -عليه الصلاة والسلام- : ( انزع عنك جبتك واغسل عنك أثر الطيب واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك ) ولقوله-عليه الصلاة والسلام- : ( لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ) فبين – عليه الصلاة والسلام- أن المحرم يتجرد من المخيط .

وكان من هديه – عليه الصلاة والسلام- أنه أمر أصحابه أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية فقد قال أنس – رضي الله عنه : فما بلغنا فَجِّ الرَّوْحاء حتى بحت أصواتنا، وفَجَّ الرَّوْحاء يبعد عن المدينة بما يقرب من سبعين كيلو مترا، وهذا مسيرة اليوم الواحد فمن أول يوم بحت أصواتهم لكثرة ما لبوا استجابة لأمر النبي، فقد قال لهم : ” أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية “. انطلق النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى مكة ومر بفَجِّ الرَّوْحاء فلقى قوماً فقال : من أنتم ؟ قالوا : المسلمون . قالوا : من هذا؟! قالوا : رسول الله ، فرفعت له امرأة صبيا فقالت : – يا رسول الله – ألهذا حج ؟ قال : نعم ولك أجر .

ثم أكمل-عليه الصلاة والسلام- حتى إذا أتى سرف وهو وادي قبل مكة والذي يسمى اليوم بـ ( النوارية ) وهناك حاضت أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها، وكانت قد أحرمت بالعمرة متمتعة فكان إحرامها بالتمتع فلما حاضت انسلت من الفراش وبكت فقال لها النبي-صلى الله عليه وسلم- : ” مالكِ أنفست – أي هل حضتي – ذاكِ شيء كتبه الله على بنات آدم فاصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت “.

ثم وصل إلى الكعبة، وكان أول ما ابتدأ به طوافه بالبيت وهذه هي سنته-عليه الصلاة والسلام- فكان إذا حج أو اعتمر لم يبدأ بشيء قبل أن يطوف بالبيت فيُحي مكة ويحُي البيت بالطواف به، فطاف سبع مرات رمل ثلاثاً ومشى أربعاً، ثم اتجه إلى مقام إبراهيم وهو يقرأ: ﴿وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾، فصلى هناك ركعتين، وجعل المقام بينه وبين الكعبة، ثم عاد بعدها إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا، وهو يقرأ: ﴿إن الصفا والمروة من شعائر الله﴾، فبدأ بالصفا، ثم نزل ومشى إلى المروة، وسعى بين الصفا والمروة سبع مرّات. وفي يوم التروية وسمي يوم التروية من الرَّيء لأنهم كانوا يحملون الماء فيه إلى عرفات من أجل سقي الحجاج، وهو اليوم الثامن من ذي الحجة – توجه النبي ومن معه إلى مِنَى، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث إلى أن طلعت الشمس، ثم سار إلى عرفة فنزل بنمرة، وهناك وقف خاطبا بالناس قائلا : ” الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .

أوصيكم عباد الله بتقوى الله و أحثكم على طاعته واستفتح بالذي هو خير. أما بعد أيها الناس اسمعوا مني أبين لكم فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا، أيها الناس إن دماءكم وأعراضكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت اللهم فاشهد، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، وإن ربا الجاهلية موضوع، ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون وقضى الله أنه لا ربا، وإن أول ربا أبدأ به عمي العباس بن عبد المطلب. وإن دماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم نبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب وإن مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة والسقاية والعمد قود وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر وفيه مائة بعير، فمن زاد فهو من أهل الجاهلية … ألا هل بلغت اللهم فاشهد .

أما بعد أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه، ولكنه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحرقون من أعمالكم فاحذروه على دينكم، أيها الناس إنما النسئ زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله ويحرموا ما أحل الله، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق الله السماوات والأرض، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات وواحد فرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان … ألا هل بلغت اللهم فاشهد .

أما بعد أيها الناس إن لنسائكم عليكم حقاً ولكم عليهن حق. لكم أن لا يواطئن فرشهن غيركم، ولا يدخلن أحداً تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم ولا يأتين بفاحشة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تعضلوهن وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئاً، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيراً … ألا هل بلغت اللهم فاشهد . أيها الناس إنما المؤمنون إخوة ولا يحل لامرئ مال لأخيه إلا عن طيب نفس منه … ألا هل بلغت اللهم فاشهد .

فلا ترجعن بعدى كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعده: كتاب الله وسنة نبيه، ألا هل بلغت اللهم فاشهد. أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب أكرمكم عند الله اتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى … ألا هل بلغت اللهم فاشهد. قالوا : نعم، قال : فليبلغ الشاهد الغائب .

أيها الناس إن الله قد قسم لكل وارث نصيبه من الميراث ولا يجوز لوارث وصية، ولا يجوز وصية في أكثر من ثلث، والولد للفراش وللعاهر الحجر، ومن ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل، والسلام عليكم “. وهنا نزل عليه قول الله تعالى : ( ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلأسْلاَمَ دِيناً ) – المائدة وحين سمع عمر رضي الله عنه الآية بكى وقال : إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان .

وتأثر أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم- وعلموا أن رسول الأمة ودعهم بهذه الكلمات وأنه على وشك الرحيل من هذه الدنيا . وبعد هذه الخطبة الجامعة صلى نبينا الظهر والعصر بأذان وإقامتين، ثم ركب حتى أتى الموقف “عرفة” وهو مستقبل القبلة وظل هكذا واقفاً داعيا وملبيا وذاكرا الله حتى غربت الشمس .

ثم ذهب الى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، وبقي بها حتى الفجر فصلى ثم ركب إلى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة داعيا ومكبّرا ومهلّلا حتى قبل طلوع الشمس، بعدها خرج ليرمي الجمرة بسبع حصيات، مكبّرا مع كل حصاة منها، ثم انصرف إلى المنحر فنحر الهدي وحلق وفي اليوم الثالث عشر من ذي الحجّة، رمى رسول الله – صلى الله عليه وسلم -الجمرات، ثم نزل بالأبطح بعد زوال الشمس، وصلّى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وبعدها نزل إلى مكة آخر الليل، وفيها صلّى الفجر بالناس، ثمّ طوف بالبيت طواف الوداع وأمر الناس بطواف الوداع فقال-عليه الصلاة والسلام- : “اجعلوا آخر عهدكم بالبيت طوافاً ” .

وفي صبيحة هذا اليوم وهو الرابع عشر من ذي الحجّة عاد النبي إلى المدينة المنورة وقد أتمّ مناسكه، عليه أفضل الصلاة والسلام ، فتكون هذه هي حجته الأولى والأخيرة، وهي التي أخذ الصحابة منها وعن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- هديه وسنته في حجته هذه على أتم الوجوه وأكملها حتى حفظوا الزمان، وحفظوا المكان، وحفظوا الحركات، وحفظوا الكلمات، ونقلوها لنا كما عاشوها معه لتكون دليلا لنا.

airfrance
مرسيدس
Leave A Reply

Your email address will not be published.